محمود درويش – عن قصيدة مديح الظل العالي
“المطلوب اليوم من الفلسطيني أن يموت في تحضر وتهذيب وبلا ضوضاء.. بينما أي دجاجة تحترم نفسها لا تقبل أن تذبح دون أن تملأ الدنيا صراخاً..”
هكذا صاغها كاتبنا “أحمد خالد توفيق” رحمه الله، الرّفض هو أبسط أشكال المقاومة، ألا تخضع ولا تخنع ولا يفتنك كثرةُ من لوّثوا أقدامهم في دروب الباطل. للسّاحات أبطالها وللمقاومة درعها من لوحةٍ وأغنيةٍ وقصيدة، الإبداع الخالد الذي لا يُطمسْ ولا يُسجن، وشظاياه العابقة لا تخطئ الوجدان. فغسان لم يحمل بندقيةً عندما عادَ بمشاعرنا إلى حيفا، وناجي فجَّر قنابله بأقلام الرّصاص المسومة، ألم يجتمع “الكنيست” لمناقشة خطر قصيدة “محمود درويش” (عابرون في كلامٍ عابر) واعتبروها تهديداً لوجود اسرائيل.
لا تستصغروا من النضال شيئاً، فالنارُ تبدأ من مستصغر الشّرر، وحجرُ الحق لا يخيبُ رميه ومن خلفهِ يدٌ مباركةٌ، ووراء اليدِ أخرى تمسكُ بالقلمِ باسم الصّامدين، لتخبر قصتهم وتبشر بأمجادهم وتخلدَ أصواتهم. الكاذبُ يمقتُ الحقيقة والظّالم يجمّلُ ظلمهُ بأقنعةٍ ووجوهٍ جديدة، زقومُ الجبناء حَرثُ زيفهم بمعاول الكشف والتّبصر. خفافيش الظلام تلعنُ النورَ وتحفرُ له بحقدها أرضَ السفاهة قبوراً. وإذا سألكم أبناؤكم عن فلسطين الحبيبة ، فأخبروهم عن أصحابِ العزم العالي، وقد مدح محمود درويش حتى “ظلالهم”، يوم كانت القضية على مفترق قصيدة، رحلت الحناجر ولم تبقَ إلا القوافي بعنفوانها ترسمُ معهم ملامح المرحلة الجديدة.
حين قدّم “محمود درويش” ملحمته “مديح الظّل العالي” قفز فوق كل شعره القديم، وأشعل رمزيةً باكيةً عاتبةً لو عاتبَ بكلماتها صخراً لانفلق. قصيدة لا يمكن أن تُقتطع من سياقها الجغرافي والتاريخي، يومَ كان الجرحُ الجديدُ طرياً ومختلفاً ودامغاً وثاقباً، وقتها خرجت الفصائل الفلسطينية المقاتلة من بيروت بعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان بمساعدة أحزاب اليمين المتطرف اللبناني وغطاء أمريكي من حكومة ريغان، معاركَ ضاريّة خاضوها ضدّ الغزو الاسرائيلي المدعوم بقصف جويّ وبحريّ وبريّ وحصار خانق لبيروت الغربيّة.
بحرٌ لأيلول الجديد
خريفنا يدنو من الأبواب
الآن بحرٌ
الآن بحرٌ … كلهُ بحرُ
من لا برّ له
لا بحر له
الرابع من أيلول عام ١٩٨٢ اكتمالُ خيوط التغريبة الجديدة، وقد حملت السّفن المقاتلين الفلسطينيين إلى سوريا والعراق وتونس واليمن والجزائر والسودان، وحتىّ ياسر عرفات توجهَ إلى اليونان مُعلناً أنه سيعود من هناك إلى فلسطين. تغريبةٌ جديدة عابثها الموج وشتت من الوجوه المقاصد، لم يغفر درويش للبحر حياده وهو يتقاذفُ حلم العودة بطحالبِ التشرد، كان الخروج من بيروت لا يقلُّ ألماً عن الخروج الأول من الوطن، وقد أرهقت المسافات الجديدة العودة حتى كأُمنية.
كم مرةً ستسافرون
ولأي حلم؟
وإذا رجعتم ذات يومٍ
فلأي منفى سترجعون
هي هجرة أخرى
فلا تكتب وصيتك الأخيرة
كان من الطبيعي أن تؤثر فجيعة بيروت بما تمثله من إجهاضٍ للحلم القوميّ وتكريسٍ للهزيمة والإحباط في نفسية “درويش” الذي عايش هذه الانكسارات، فكانَ يمسكُ الوجعَ والخذلان ويعتصره كلاماً، واستعملَ موروثه الحضاري الكنعاني ومقاربات من الكتب المقدسة في قصيدته. هذه القصيدة التي وقفت على ساقٍ واحدة من الألم بينما الساقُ الأخرى تركلُ أشباح المتآمرين والمدّعين.
كم كنت وحــــدك،
يا ابن أمّي
يا ابن أكثر من أب ٍ
كم كنت وحـــــدكْ
القمح مـرٌّ في حقول الآخرين
والماء مالح، والغيــم فولاذ ٌ
ألوان الحسّ المختلطة في صنوف الكلمات يوم تيتمت القضية، أخوّة التغريب القسّري لأبناء الأرض الواحدة، بينما لقضيتهم الكثير ممن ادعى تبنيها ومحاباتها، ثمّ خذلها وجُندُها طوعاً ورغبة. فكان على الفلسطيني إدراك أن الخسارة خسارته وحده، والنهوض واجبه وحده. فخروج الفصائل المقاتلة من بيروت كان بمباركة ضمنية من أنظمة عربيّة إقليمية التمست خطراً على مصالحها من هذا التواجد. كان التكالب قاسياً وجاحداً من القريب والبعيد، والأمل أصبح على عاتقِ الفلسطيني وحده ورهناً بإرادته.
ســـقط القنـاع
ولا أحد ْ
إلاّك في هذا المدى المفتوح للأعداء والنسيان،
فاجعل كل ّمتراس بلد
لا ……… لا أحـــد ْ
سقط القناع
عرب ٌأطاعوا رومهم
عربٌ وباعوا روحهم
رحلة الشّتات في أصقاع الأرض وحلم العودة المأخوذ كرهينة خلف جبالٍ ووديانٍ ولهجاتٍ غريبة، بيروت كانت تملك شيئاً من حنان الوطن الأم، تربطُ على قلبك كذكرى من مدنك القديمة. درويش اعتبر بيروت “خيمته”، يكررُ اسمها في قصيدته منادياً غائباً لن يعود، ميزّها دوماً عن لبنان ولم يعتبرها عاصمته بل حاضنة الفدائيين. وقع في نفسه خروج سكان بيروت لوداع المقاتلين، اختلط النّواح بالزغاريد، وامتزجت أنفة الحق بالشّعور بالانكسار، أمطر قلوبهم الخوف من المستقبل الغامض على مصيرهم ،ولم تُكذِب الأحداثُ مخاوفهم الأليمة. وكانت مجزرةُ مخيميّ صبرا وشاتيلا في ذات أيلول الحزين وبعد خروج المقاتلين بعدّة أيام …
بيروت / فجراً
بيروت / ظهراً
بيروت / ليلاً:
يخرج الفاشي من جسدِ الضحيَّة
يرتدي فصلاً من البارود: أُقْتُلْ – كي تكونْ
عشرين قرناً كان ينتظُر الجنونْ
عشرين قرناً كان يبكي.. كان يبكي
كان يخفي سيفَهُ في دمعَتِهْ
أَو كان يحشو بالدموع البندقيَّة
عشرين قرناً كان ينتظر الفلسطينيَّ في طرف المخيَّمْ
عشرين قرناً كان يعلَمْ
أن البكاءَ سلاحُهُ
صبراْ – فتاةٌ نائمة
وقدَّمَتْ بيروتُ طاعتها وصارتْ عاصمَة….
ليلٌ طويلٌ
يرصدُ الأحلامَ في صبراْ
صبرا التّي لم يُعرف عدد ضحاياها، لم يُعرف هل صرخوا أم سكنوا في لحظاتهم الأخيرة، لم يُعرف كم غاصَ فيهم السّيف حتى غصّ المقبضُ. كتبها درويش في قصيدته رسالةً لجيلٍ راهنوا أنه سينسى، عقدوا اليقين على أنه سيمضي ليأخذ شكل إناء القمع الذّي وضعوه فيه. قالها “ديفيد بن غوريون” مؤسس دولة اسرائيل ” الكبار يموتون والصّغار ينسون”. هم راهنوا على النسيان ودرويش راهن على الصمود، على شحذ الطاقة من جديد ومعاودة الهجمة.
لا شيء يكسرنا، فلا تغرق تماماً
يا ابن الهواء الصّلب
يا ابن اللفظة الأولى على الجزر القديمة
لا برّ إلا ساعداك
لا بحر إلا الغامض الكحلي فيك
الثورة فكرةٌ لا تفنى، قناعةٌ إذا ما ترسخت تأصلت، الأفكارُ تنتشر وتزدهر، تربطنا بالعالم الواسع وتبلّغ رسالتنا بسرعة الحق، والحقُ خطواته صغيرة ولكنّها ثابتة، فمن ظنَّ أن الباطل سينتصرُ على الحق فلقد أساء الظن بالله.
ما أوسعَ الثورة
ما أضيقَ الرّحلة
ما أكبر الفكرة
ما أصغر الدولة