علي عزت بيجوفيتش | ابحث في نفسك عن حريتك
لا وحشة لمن أَنسَ بنفسه، ولا بقاء لفكرة إلا بالإيمان القارسِ بها، الحريّة حالة شعورية قبل أن تكون جسدية، والوحدة ليست فراغًا في يقين النفوس الممتلئة. وفي كتاب “هروبي إلى الحريّة” وضع “علي عزت بيجوفيتش” في عينِ السّجان إصبعه.

المفكر الذّي لم يتوقف عن التفكير:
“علي عزت بيجوفيتش” المفكر الإسلامي و رجل القانون البوسني، ابن شعب البوشناق المسلم الذّي حمل قضية شعبه في قلبه وعقله وكتبه. خرج من السّجن ليصبح أول رئيس لجمهورية البوسنة والهرسك بعد استقلالها عن يوغوسلافيا، فكان “مانديلا” اوروبا الشّرقية الذّي رفض الشّيوعية في أوج سطوتها. أما دخوله السّجن فكان عام ١٩٨٣ بعد محاكمة معروفة النتيجة في ظلّ النظام الشمولي السائد، ليحكم عليه بأربعة عشر عاماً من السّجن تمّ تخفيضها فيما بعد إلى تسع سنوات. ليدخلَ السّجن وهو في التاسعة والخمسين من عمره، و يؤلف خلف جدرانه كتابه ” هروبي إلى الحريّة”. يقول في الكتاب :
” يعاني الإنسان في السّجن من نقصٍ في المكان و فائضٍ في الزّمان”
علي عزت بيجوفيتش
هروبهُ إلى الحريّة:
ياء الملكيّة في عنوان هذا الكتاب أكثر من مجرد ضميرٍ متصلٍ، هي سفيرةُ التّفرد إلى أرض التّكرار و التّشابه، فهروب “علي عزت بيجوفيتش” لا يشبه هروب الآخرين، ولا يحاكي توقعات النّاظرين والمراقبين. الهروب الممكن الوحيد من سجن “فوتشا” _ذو الأسوار العالية_ هو هروب الفكر والروح، ولمدينة “فوتشا” البوسنيّة رمزيتها المرتبطة بالموت و المجازر الجماعيّة، وكأن أشباح الضحايا همست في أذنه بتيمة الصّمود. أحتاجَ أن يقتل الوقت حتى لا يقتلهُ، فأخذ ينقبُ في منجم خواطره، وأعاد تدوير وتشريح كلّ ما قرأه، كان يسكب خواطره على الورق مع ترميز الكلمات المحظورة في حضرة الأنظمة الشّيوعية كالإسلام و الشّيوعية و الديمقراطيّة…، و يخفي دفاتره في خزانة شريكه في العنبر المُدان بجريمة قتل، لأن تفتيش السّجناء الجنائين يكون أقل من السّجناء السياسين، وليتمّ تهريبها فيما بعد بواسطة علبة شطرنج إلى خارج السّجن. فقيمة الأفكار لا تكمن في ذاتها فحسب، بل أيضاً في الظروف التّي كتبت فيها.
المحاور الأساسية للكتاب :
يقسم الكتاب إلى ستة فصول رئيسية يتصدر كل منها عنوان يواكب مضمونها، والخواطر مرتبة داخل كل فصل حسب التّسلسل التّاريخي لكتابتها، ويختم الكتاب بملحق يحتوي رسائل أبنائه الثلاثة إليه. تكلم في كلّ ما يمكن الكلام عنه، وأزاحَ جموعاً من إشارات الاستفهام عن عروشها، تحدثَ عن الحيّاة و النّاس و الحريّة و عن الدّين و الأخلاق من منظوره الخاص، ناقشَ الفلسفات التّي كانت مسيطرة على أوروبا الغربية في تلك الحقبة من الوجودية إلى العبثية. استطرد في تفكيك الشّيوعية و النّازية، فوثق حوداث من قلب هاتين المنظومتين أبرزت بمجملها عيوبهما. تحدث بشغف عن الإسلام كنظام سياسي و اجتماعي، وكان من الجميل أن نقرأ عنه في عيون مسلم غير عربي، وتظهرُ سعة إطلاعه بحديثه عن عقليات الشّعوب المسلمة في الامتدادات الجغرافيّة المختلفة.
رسائل أبناء سجين سياسيّ:
لو أدرك الإنسان حجم خسارته لما توقف يوماً عن كتابة الرسائل، لقاتلَ كلّ مميزات التكنولوجيا ليحافظ على حقه بإسكاب حروفه على حافة قلم، لا يمكنك أن تعيدَ قراءة مكالمة هاتفية ولا حميمية بين أسطر الرسائل الالكترونية، فالورق لا يشهدُ زوراً مهما جامله القلم. إن هذه الرسائل التّي ألحقها “علي عزت” بكتابه تحملك من مخدعك الدافئ إلى داخل عائلة سجين سياسيّ، عبقُ حنين و شوق مُعتق بنوع من عدم التصديق. “بكر و ليلى و سابينا”_أبناءه الثلاثة_ كانوا نظرته من ثقب باب الزّنزانة على العالم الخارجي، يكتبون له عن العالم السّائر هناك لا ينتظر أحداً، تعويضٌ رمزيٌ عن سنوات لن تعود مهما تشبث المرء بها. يقول”علي عزت بيجوفيتش” عن هذه الرسائل:
“”إن كان الأدب هو هروبي الثّقافي إلى الحريّة، فإن هروبي العاطفي كان في تلك الرّسائل، كنتُ أشعرُ في اللّحظات التّي أقرؤها فيها أنني لستُ إنساناً حراً وحسب، وإنما كأنني إنسان أهداه الله كل خيرات هذه الدنيا””
علي عزت بيجوفيتش

هروبي إلى الحرية” أدب السّجون المضاد:
أدب السّجن هو نقل تجربة ما وراء القضبان إلى الجمهور في قوالب أدبية وفكرية، لتصوير مناحي معاناة السّجين وأصناف الظلم والبطش وتوثيق الممارسات وتخليدها. في “هروبي إلى الحريّة” لا تجدُ مناخ السّجن بل و حتى في كثير من المواضع تنسى أنه كُتِب خلف القضبان. يتحدث “علي عزت بيجوفيتش” في موضع عن طلب الاسترحام الذّي رفض التّوقيع عليه، و في موضعٍ آخر يقول:
“اليوم هو ٢٣/٣/١٩٨٧ انتهت أربع سنوات سجن و بقي خمسة”. جملة خبرية بسيطة تحملُ نبأً عظيماً في بضعِ كلماتٍ صغيرة، يعترفُ أن أملهُ بالموت كان موجوداً ولكنّه أحتفظ به لنفسه كسّرٍ كبير. ومع ذلك لم يتطرق لأجواء السّجن أو يومياته بين النزلاء إلا كإشاراتٍ متباعدة ضمنَ سياقٍ آخر، بل يقول أنه في بعض الأحداث عنصرُ الوقت غير هام وغير ضروري، فيتابعُ مُفرغاً ما في جعبتهِ من أفكارٍ، مُحلاً لغابته الثقافية اليانعةِ والغزيرة.
ابحث في نفسك عن حريتك:
اوأنت تتجول في عقول الآخرين لا تنسى أن تعود لنفسك، وأنتَ تقرأ تجارب غيرك استلهم من تجربتك، لتكن لك ذاتك عوناً و مؤنساً ونوراً بهيجاً، فنحنُ لا نحتاج سجناً بالضرورة لنكون أسرى، ولا مكاناً واسعاً لنفقدَ الاتجاه ونضلَّ السبيل، فأنتَ ثروتك الأغلى كلُّ ما تملك وكلُّ ما سيبقى لك.