عبدالرحمن الأبنودي .. خال القصيدة وشاعر الغلابة

يطوف الشّعراء في وادي عبقر ينفخون الكلام ليعود صداه شعراً مُستنبطاً، أما الأبنودي فلهُ من العبقرية بمفرده وادٍ زرعه بمعول العاميّة و التّراث ، فأنبت أغنياتٍ و قصائد من صميم الواقع. جمع الرّوح الشّعبية بالعمق الوجودي في شعره، و سقى حروفه بالشّجن فحملت هموم الإنسان البسيط. هو خال الكلمة و حاكيها و مالكها، نحاتها الذي كسر بأزميله نمطيتها و قواعدها.

بداية الحكاية:

ولد الخال عبد الرحمن الأبنودي عام ١٩٣٩ في قرية أبنود “محافظة قنا” في صعيد مصر لأسرة بسيطة فقيرة الحال، والده الشيخ محمود عمل كمأذون شرعيّ، والدته فاطمة كانت الشخصية المحورية في حياته وصفها بأنها “ملهمته و معلمته الأولى التّي أرضعته الأشعار و الطقوس و الأغنيات و التراث”.

و عندما رحل إلى القاهرة مع رفيقيّ حلمه الإبداعيّ القاص يحيى الطاهر عبدالله و الشّاعر أمل دنقل، اقتحم المدينة الغريبة بتصميم “الجنوبيّ” على أن يحتل مكاناً متقدماً في طليعة الصّفوف. غادر أبنود دون أن تغادره بل حملها بأهلها و حكاياتها و لهجتها بين متاعه، كان وفياً لها أصيلاً في ذكرها لا يحمل كِبرَ المثقف، تكنى بأبنود و لا يذكر اسمه إلا مقروناً بها، و لا يمرّ قطار الصّعيد منها إلا لتتعالى الألسن داعيةً بالرّحمة لابنها البار عبدالرحمن.

“أنا صوتي مني وانا ابن ناس فقرا،
شاءت ظروفي إني أكتب واقرا،
فباشوف وباغنّي، والفقرا باعتيني،
ياناس ياهوه، قبلن ما اقول قولة،
اتأكدوا إن صوتي ده وصدر مني“

الشاعر عبدالرحمن الأبنودي

االتجربة الأدبية الأبنودية:

الأبنودي أشهر شعراء العاميّة و الذّي غير التّكوين المعروف للقصيدة العاميّة و حررّها من قالبها الزّجلي، اتسمت كتاباته بنفسٍ طويلٍ لتراكيبه مع تنوع أسطره الشّعرية بين الطّول و القصر حسب مقتضيات الأداء الدّلالي، بعد ما كانت الأسطر الشّعرية في العامية تكاد تكون متساوية. حرص على تقديم الصّور ذات التجريد الرّمزي أكثر من الصّور التقليدية، فوظّف الكلمة لتكون لها الفعالية العظمى في النسق التّركيبي و لتكون أسبق من الجملة.

شعره كان السّهل الممتنع المعقد ببساطة أو البسيط بتعقيد، جمع النقائض دون أن يقع في فخ التناقض، فكان هامة عملاقة يتابع نتاجها المثقفون، و الخال الصّعيدي الذي يردد أعماله البسطاء و يجدون فيها مفردات واقعهم. شقّ للقصيدة العاميّة طريقاً مُستحدثاً لتؤخذ بجدية أكبر تليقُ بها ، كان أول شاعر عاميّ يفوز بجائزة الدولة التقديرية في عام ٢٠٠١.

أنا باشكر اللى خلق لى الصوت وأوصانى
أقول كلام حُرّ.. مايقبلْش لون تانى
مااسكتش ع الضِّيم واهشّ الغيم بقولة آه
وإن سرقوا صوتي.. بينسوا ياخدوا قولة آه
في الفرْح في الجرح إيه حيلتى إلاّ قولِة آه .

الأبنودي صانع النّجوم:

منارة الإبداع في عقل الخال كان لها أكثر من شّعاع، و كلماته أضاءت في حضرة الألحان بذات وهج الشّعر. احترم الخال الأغنية و اعتبرها فناً مؤثراً في الأمة، بينما أعتبر البعض كتابته للأغاني وسيلة لكسب الرزق. تنوعت كتاباته في هذا المجال بين الأغاني العاطفية و الأغاني الوطنية.

كانت البداية مع المطرب “محمد رشدي” و الذي كان صوته بساط ريحٍ للأبنودي يحمله إلى الريف و البساطة. شكل مع الملحن الشهير بليغ حمدي ثنائياً فنياً خارقاً، تغنى بكلمات الأبنودي كبار فنانيّ جيله كالعندليب عبدالحليم حافظ و نجاة الصغيرة و صباح، و تعاون تعاوناً طويل الأمد مع علي الحجار و محمد منير. و كان لمواله الشّهير “عدى النهار” و الذي قدمه “عبدالحليم حافظ” بعد النكسة أثر السحر في  رفع معنويات النّاس، نفخ الروح في النفوس المهزومة و ضمدّ جرحاً غائراً في كبرياءها.

عدّى النهار والمغربية جاية
تتخفى ورا ظهر الشجر
وعشان نتوه فى السكة   شالت من ليالينا القمر
وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها
جانا نهار مقدرش يدفع مهرها
ياهل ترى الليل الحزين أبو النجوم الدبلانين
ابو الغناوي المجروحيين
يقدر ينسيها الصباح   ابو شمس بترش الحنين

عبدالرحمن الأبنودي مع محمد منير
عبدالرحمن الأبنودي مع محمد منير

وطن الأبنودي بين الأغاني و القصائد:

يبدو أن وطن الخال الذّي “يحلف بسماه و ترابه” كان نسخة متفائلة من وطنه المنسوج بخيوط الشّعر، لقد أشقاه الوطن و مزق من قلبه مواضع عدّة. الأرض مثلت مكوناً رئيسياً و قيمة حاضرة في أعمال الأبنودي الشّعرية و النّثرية منذ البدايات و حتى وارى الثرى في أحضانها، كان الأمر يفوق حنين الشاب الرّيفيّ لأصوله ووحشته في المدينة الكبيرة، فالتغني بالأرض كان إسقاطاً للايدلوجيات القومية التي رافقت طلعته، حيث رسخت قيم الاشتراكية من ارتباط الإنسان بوطنه، و نددت بانتفاء العدالة الاجتماعية و اختلال المنظومة المالية بين طبقات أبناء الوطن الواحد.

ويا مصْر وان خيّروني ما اسكن إلاكي
و لاجْل تتبِّسمي.. يا ما بابات باكي
تسقيني كاس المرار.. و برضُه باهواكي
بلدي ومالي إلا انتي ولو ظلمتيني..
مقبولة منِّك جراح قلبي وْدموع عيني
الجرح يشْفى إذا بإيدك لمستيني..
كلّك حلاوَة.. وكلمة «مصر».. أحلاكي!!

هاجس سيرة بني هلال:

كان حكواتي القريّة يطوف في رأس عبدالرحمن الأبنودي بالسّيف و الكلمة، يقرع على صندوقه الخشبي حكايات بنيّ هلال، حكاياتٌ شعبية اتسعت جنباتها للحب و النذالة و الشّجاعة و التضحية.السّيرة الهلالية هي إلياذة العرب التّي كانت قبل الأبنودي مجرد حكاياتٍ متوارثة شفهياً و غير مكتوبة،  قائمة على شخصيات ملحميّة حققت جماهيرية واسعة في الوجدان القوميّ العربي. فتنت مخيلة الأبنودي و أصبحت هاجسه الأكبر.

بدأت رحلة الشّاعر الكبير في جمع “السّيرة الهلالية” في أعقاب هزيمة يونيو/حزيران عام ١٩٦٧، ليدفع ثمن جمعها ثلاثين عاماً من عمره، مسافراً يجمع أثرها بين السّودان و الجزائر و ليبيا، مطارداً زخمها حتى حدود تشاد و النيجر، باحثاً عن اكتمالها في تونس الخضراء. ليوّثق هذه الملحمة في مجلدات مكتوبة و يقدمها بإلقاء مسموع عبر الإذاعة المصريّة، ثمّ دخل الاستديو عام ٢٠١٠ و سجلها في تسعين حلقة.

عبدالرحمن الأبنودي مع محمود درويش
عبدالرحمن الأبنودي مع محمود درويش

جوابات حراجي القط:

إن كانت سيرة بني هلال تجسد أسطورة المُخلِص و المُنتصر الذّي استطاع أن ينقذ أهله العرب من براثن الجفاف، فإن “جوابات حراجي القط” تنظم ملحمة حديثة لا تنتصر لحرب و لا تضعُ مبرراً لهزيمة، لكنّها تخلد روحاً نضالية مصريّة خالصة في البناء و التّعمير. خمسة عشر رسالة متبادلة بين “حراجي القط” أحد العاملين في السّد العالي، و زوجته البسيطة السّيدة “فاطمة أحمد عبدالغفار”، يعدّ هذا الديوان أشهر أعمال “الخال” و اشتهر مسموعاً بصوته الصّعيدي الصّداح في الإذاعة المصرية.

يبعثر الشّوق مفروداً بين حراجي و فاطمة، و يتضاءل هذا العامل النشيط أمام الآليات الضخمة، تعيش اغترابه في أسوان و انطباعاته عنها بكلماتٍ قليلة . فاطمة بعينيها و قلبها البكر تعاين الانبهار و الفضول المستمر فتحرك بأسئلتها حكايات حراجي.

شهرين يا بخيل ؟ .. ستين شمس وستين ليل ؟!

النبي يا حراجي ما اطول قلبك لأقطع بسناني الحتة القاسية فيه.

مغامرات الشاشة الكبيرة:

امتدت مغامرة الأبنودي الشّعرية إلى عالم السّينما، فكتب الحوار و الأغاني للفيلم الشّهير “شيء من الخوف”، وكان الأبنودي مشرفاً على تقويم اللهجة الصعيديّة للممثلين في الفيلم لتخرج بأكمل صورة ممكنة. كما كتب أغاني وحوار فيلم “الطوق والإسورة” المأخوذ عن رواية صديقه “يحيى الطاهر عبدالله”، و كتب عشرات الأغاني لأعمال درامية من أبرزها أغاني مسلسل “النديم” و “ذئاب الجبل” و فيلم “البريء”.

نهاية الحكاية:

لاشيء يخلد المرء كالقلم، الكُتّاب لا يمسّهم الفناء ولا يزول منهم إلا الجسد، إرث الكاتب تِركة للأمة تتشاطره الأجيال العابرة.

 غاب صوت قنا الذّي غرد في فضاءات الشّعر في أبريل/نيسان عام ٢٠١٥، نال الموت من الخال الأبنودي شاعر “الغلابة” بعد صراع طويل مع المرض، و رحلة خصبة بين ربوع الحيّاة و الشّعر، حضوره الشّخصي المحبب بدا كما لو كان أبدياً، أما حضوره الشّعري فهو حقا أبدي.

خايف أموت من غير ما اشوف
تَغيُّر الظروف تَغيُّر الوشوش وتَغيُّر الصُّنوف
 والمحدوفين ورا… متبسّمين فى أول الصفوف!!
 خايف أموت وتموت معايا الفكرة
لا ينتصر كل اللى حبيته
ولا يتهزم كل اللى كنت اكره
إتخيلوا الحسرة إتخيلوا الحسرة