قناة السويس تاريخ طويل من معاناة المصريين

   قناة السويس

مصر دولة قديمة جدًا، حافظت على شكل خريطتها على مدار التاريخ، مر عليها الكثير من الغزاة الطامعون في الاستفادة من موقعها ولكنها دائمًا كانت تلفظهم خارجها وتنتصر عليهم ولو بعد حين.

   ونحن كمصريين نعرف أن لنا بصمات واضحة في تاريخ البشرية، وكان لنا السبق في العديد من المجالات، أصبحنا الآن بدون بصمة وزاد ترنحنا ونحاول أن نتماسك حتى لا نقع؛ ولكن تاريخنا يقول أننا غيرنا الكثير من الأمور في هذا العالم، والآن ونحن هنا نتحدث عن قناة السويس نستطيع أن نقول وبدون أي شك أن هذه القناة التي تم حفرها بأيادي المصريين غيّرت الكثير من شكل التعاملات في العالم.

قناة السويس
قناة السويس

قناة السويس من فكرة إلى حقيقة

   التفكير في إنشاء قناة تربط بين البحر المتوسط والبحر الأحمر بدأ منذ قيام الدولة المصرية القديمة، وقد بدأ المصريون القدماء في ركوب مياه البحر الأحمر فيما يرجع إلى أيام الملك بيبي الأول وهو من ملوك الدولة القديمة، وتمثّل أول تحقيق متعارف عليه لربط البحر المتوسط بالبحر الأحمر في القناة التي شقها فرعون مصر سنوسرت الثالث وربطت بين البحرين عن طريق فرع من فروع النيل – والتي كانت كثيرة في ذلك الوقت- وذلك عام 1887 قبل الميلاد تقريبًا.

وبعد ذلك طمرت الرمال وعوامل الجو هذه القناة وحاول الفرس إعادتها عام 510 قبل الميلاد، والإغريق عام 285 قبل الميلاد والبطالمة 45 ميلادية والرومان 98 ميلادية، وأعاد عمرو بن العاص شقها بعد أن أهملها البيزنطيون ولكن وقت الدولة العباسية أمر الخليفة أبو جعفر المنصور بردم هذه القناة حتى لا تستخدم في نقل المؤن والزاد إلى أهل مكة والمدينة الثائرين على حكمه.

هرم الملك بيبي الأول

     وبعد عدة قرون ومع اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح ووجود الإمبراطوريات الاستعمارية مثل بريطانيا وفرنسا، عادت فكرة القناة تلوح في الأفق من جديد وعندما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر بقيادة نابليون بونابرت كان من ضمن أفرادها كبير مهندسي نابليون ( چاك ماري لوبير) وكلفه بدراسة مشروع قناة تصل بين البحرين الأحمر والمتوسط.

طريق رأس الرجاء الصالح

  ولكن لوبير وقع في خطأ بعد دراسة استمرت عام كامل، فقد خرج باستنتاج أن مستوى سطح البحر الأحمر أكثر ارتفاعا من مستوى سطح البحر المتوسط بمقدار ثمانية أمتار ونصف المتر، وأُحبط نابليون وفشلت الحملة الفرنسية بعد ذلك وخرجت من مصر، ولكن بعد سنوات عديدة عاد فرنسيون آخرون ليعيدوا التفكير في القناة وهم أتباع سان سيمون وكانوا يؤمنون بمجموعة من الأفكار بينها تواصل الشرق والغرب واعتماد الإنتاج دينا جديدا لرخاء البشرية، واهتموا بمشروع حفر القناة بهدف ( خدمة السلام العالمي عن طريق القيام بمشروعات جليلة تعود بالخير والرفاهية على البشرية جمعاء) هكذا كان وصفهم.

   جاءوا إلى محمد علي ولكنه رفض المشروع وتركهم يقومون بالدراسات عليه، وأثبتوا أن الفارق بين منسوبي البحرين يكاد لا يذكر وأن لوبير وقع في خطأ عندما كان يدرس المشروع أثناء الحملة الفرنسية، وعرضوا المشروع مرة آخرى على محمد علي لكنه رفضه مرة أخرى وقال ” لا أريد بسفورا آخر” إشارة إلى مضيق البسفور وما سببه من مشكلات بسبب الأطماع الاستعمارية.

إقرأ أيضًا: اسهامات المسلمين للعالم في علم الجغرافيا

دليسيبس والأطماع الاستعمارية

   صادق دليسيبس الخديوي سعيد عندما كان لا يزال أميرًا صغيرًا، فقد أحضره محمد علي حتى يصقل ابنه ويعلمه ويجعله لا يستسلم لسمنته وحبه للأكل، ولكن دليسيبس كان يمرر أطباق المعكرونة التي كان يعشقها الأمير الصغير خلسة ولم ينسى سعيد ذلك، واستدعاه عند توليه العرش، ورأى دليسيبس في سعيد فرصة كبيرة لأنه حاكم ضعيف الإرادة والإدراك، وقد قرأ عن تفاصيل الدراسة التي قام بها مواطنيه أثناء الحملة الفرنسية وأيضًا أعطاه زعيم السان سيمونيون الدراسات التي قاموا بها حتى يعرضها على الحاكم الجديد سعيد.

وفكر دليسيبس ووجد أنها فرصة كبيرة ليقنع صديقه القديم بالمشروع ويحقق بعض المكاسب الاستعمارية.

دليسيبس، وقناة السويس
دليسيبس

  اقتنع سعيد بفكرة المشروع ونسب دليسيبس كل شيء لنفسه وعرض الفكرة وكأنه صاحبها، وحصل بعد ذلك على موافقة سعيد حاكم مصر منحه امتياز تكوين شركة لشق قناة السويس وحق استغلالها 99 عام تبدأ من يوم افتتاحها، وأيضًا أخذ جميع الأراضي اللازمة لشق القناة البحرية وقناة المياه العذبة التي تمد العاملين بالمشروع بالمياه بدون مقابل، وحق استخراج جميع المواد اللازمة لأعمال القناة والمنشآت التابعة لها من المناجم والمحاجر التي تملكها الدولة المصرية

وإمداد الشركة بالموظفين والمهندسين والعمال اللازمين مع المساعدة الدائمة والحماية، كان هذا في فرمان الامتياز الأول، أما فرمان الامتياز الثاني فقد جاء فيه تصديق على ما جاء في الفرمان الأول وزاد عليه وجوب استخدام أربعة أخماس العمال اللازمين للمشروع من المصريين.

 السخرة ومعاناة العمال المصريين

   استخدم ديليسبس الدعاية الدينية لجمع العمال، وكان حريصاً على ترديد فكرة أن مشروع القناة قد جاء ذكرها في القرآن والإنجيل!

   وبعد أن حصل ديليسبس على فرمان الامتياز أسس الشركة العالمية لقناة السويس برأس مال قدره 200 مليون فرنك، ولم يستطع إكمال رأس المال من مساهمات المكتتبين ( إنجلترا، الولايات المتحدة، النمسا وبالطبع فرنسا) فلجأ إلى سعيد الذي استدان 28 مليون فرنك بفوائد باهظة على الخزانة المصرية وأكمل مساهمة مصر في رأس مال الشركة لتصل إلى أكثر من 88 مليون فرنك، بجانب الأراضي والحماية وعرق وأرواح مئات الآلاف من العمال المصريين.

   تم أخذ الآلاف من المصريين عند بداية المشروع من قُراهم إلى مكان الحفر الذي كان صحراء قاحلة، وفي 25 إبريل 1859 كانت ضربة الفأس الأولى في حفر قناة السويس، واستهل ديليسبس احتفالا بافتتاح العمل في مشروع القناة برفع العلم المصري وألقى كلمة جاء فيها ” باسم شركة قناة السويس العالمية البحرية وتنفيذا لقرار مجلس إدارتها نضرب أول معول من هذه الأرض لفتح أبواب الشرق لتجارة الغرب وحضارته، عن طريق مدخل الشرق، إننا مجتمعون هنا تحدونا فكرة واحدة هي الإخلاص لأغراض الشركة ومصالح راعيها العظيم محمد سعيد باشا” وامسك بمعول وضرب الأرض وتبعه المهندسون وسائر عملاء الشركة.

وبعد ذلك توجه بحديث حماسي رومانسي حالم إلى العمال المصريين قائلًا “سوف يبدأ كل منكم بمعوله في عمليات الحفر كما فعلنا نحن الآن، واذكروا بأنكم بهذا لن تحفروا الأرض فقط، ولكن ستجلبون الرخاء لأسركم وبلادكم” ولم يكن ديليسبس يريد سوى مصلحته الاستعمارية وهذا الخطاب الحماسي كان مدخل فقط للسخرة واستنزاف طاقات العمال المصريين وموراد بلادهم.

   مع سير العمل في الحفر أراد ديليسبس زيادة عدد العمال المصريين، واستخدم في ذلك الامبراطورة أوچيني زوجة نابليون الثالث إمبراطور فرنسا، التي فتنت سعيد بجمالها فلم يرد لها طلبا، حتى أن ديليسبس أطلق عليها الملاك الحارس للقناة ويقول عنها أنها بذلت من أجله ما بذلت الملكة إيزابيلا الكاثوليكية لكريستوفر كولمبوس المكتشف الشهير! 

     زاد عدد العمال عن 30 ألف عامل بنظام السخرة، وكان يتم استبدال 20 ألف عامل كل شهر، وكانوا يعودون إلى قراهم بأي وسيلة فقد كانت المواصلات ذهاب فقط إلى منطقة الحفر أما العودة فيحاول العامل أن يجد أي شيء يوصله بأي طريقة إلى قريته، ومواصلات الذهاب إلى منطقة الحفر كانت على نفقة الحكومة المصرية، وأدى ذلك إلى إنهاك شبكة المواصلات بشكل واضح، أما فيما يخص العمال فقد كانوا يعودون إلى قراهم والتعب متمكن منهم، فيظلون يتعافون لفترة طويلة ثم يعودون إلى عملهم الأساسي الزراعة، فلنا أن نتخيل حجم الوقت الذي كانت تظل فيه الأرض الزراعية بدون اهتمام؛ وأدى ذلك إلى نقص في المحاصيل الزراعية وحدوث خلل في الإنتاج الزراعي الذي كانت مصر متميزة فيه.

  وصل عدد العمال المصريين في حفر القناة بنظام السخرة إلى 400 ألف عامل من مختلف القرى المصرية، ومع وفاة سعيد وتولي إسماعيل حكم مصر بدأت قضية السخرة تخرج على السطح ليزيد استياء المصريين ويصل إلى ذروته.

   فتدخلت بريطانيا لتعارض نظام السخرة حتى توقّف النفوذ الفرنسي في مشروع القناة؛ والذي قد وصل مداه في فترة حكم سعيد، ووقع إسماعيل في الشرك بعد أن تكونت لجنة تحكيم إمبراطورية بقيادة إمبراطور فرنسا وصدر حكمها بإلغاء السخرة مع تعويض الشركة بمبلغ 38 مليون فرنك، ورد الأراضي التي أخذتها الشركة ولا يحتاجها المشروع ومساحتها حوالي 600 كيلو متر مربع، على أن تدفع الحكومة المصرية تعويضات بلغت 84 مليون فرنك، إذن التعويضات التي حصلت عليها الشركة مقابل ما اغتصبته تساوي أكثر من نصف قيمة رأس مال الشركة!

قناة السويس

    قبل ذلك حاول المصريون الهروب من منطقة القناة أو التمرد نظرًا لسوء الوضع والظروف، ورأى ديليسبس ضرورة وجود شخص مهمته الحفاظ على الأمن، وعهد سعيد إلى إسماعيل حمدي بك وهو ضابط تركي قاسي لا يهتم بالمصريين ولا بمشاعرهم، وجمّع مشايخ البلاد وجعل كل شيخ مسئولا عن العمال الذين من قريته أو القرى القريبة منه، يراقب إنتاجهم ويمنعهم من الهروب ليلًا، وإذا شعر إسماعيل حمدي بتقصير من أحد المشايخ كان ينزله إلى درجة عامل، فأدى ذلك إلى أن أصبح المشايخ يقسون على العمال خوفًا على أنفسهم.

    ووفر ديليسبس لإسماعيل حمدي كل وسائل الراحة من أجل أن يقوم بعمله، وتم بناء سجن وجُمع فيه كل زعماء العمال المتمردين وأي عامل كان يشكو من التعب أو تظهر لديه بوادر تمرد، وأيضًا هناك عقوبة الجَلد وبشكل علني أمام العمال وبيد الشيوخ القائمين على متابعتهم. وهكذا استخدم إسماعيل حمدي بك كل وسائل التعذيب ليحفظ الاستقرار داخل مجتمع العمال المُستخدمين في الحفر.

   حاول دكتور زاهي حواس العالم الأثري أن يوضح بأبحاث مختلفة أن بناء الأهرامات لم يكن بنظام السخرة، وأن العاملين في البناء كانت لهم مكانة خاصة ومقابر خاصة وأنهم كانوا يقومون بذلك برضى وعدم سخط، أما بالنسبة لقناة السويس فكانت الامتيازات التي منحها الحاكم المصري واضحة وتفيد بأن العمل كان قائمًا بنظام السخرة ولا نحتاج إلى أن نحاول إثبات ذلك فهو مُثبت ولكن لم يتناول أحد التضحيات التي قام بها المصريون وما تعرضوا له خلال حفرهم للقناة من وجهة نظر مصرية.

زاهي حواس

وظلت الأمور هكذا إلى أن اقترح الأستاذ محمد شفيق غربال– أستاذ التاريخ الحديث بكلية الآداب جامعة القاهرة- على طالبهِ عبد العزيز الشناوي عام 1938 أن يتناول في رسالته للماچيستير نظام السخرة في حفر قناة السويس وما تعرض له العمال المصريين أثناء الحفر من ويلات.

   مآسي نظام السخرة كثيرة ومليئة بالقصص والعرق والكفاح، حفر المصريون قناة غيرت من شكل طرق التجارة في العالم وقاموا بوضع بصمتهم -كعادتهم- في تاريخ البشرية.

    افتُتحت القناة في حفل كلف الخزينة المصرية الكثير والكثير وكل ذلك من أجل العظمة التي أرادها سعيد وفُتن بها وتبعه في ذلك إسماعيل، ولم ينظروا إلى مصر وأبناء مصر بأي عقل أو شفقة.

    في عام 1882 دخلت انجلترا بقواتها إلى مصر عن طريق القناة بعد أن اقتنع أحمد عرابي بطمأنة ديليسبس له أن القناة ممر دولي ولن يُسمح للانجليز بالدخول بقواتهم من خلاله، بعد أن كان يريد عرابي أن يردم القناة أو يعيق الممر المائي بأي شيء حتى لا تكون ثغرة من الممكن أن يستغلها الإنجليز ولكن خانه ديليسبس واحتلت إنجلترا مصر بعد مقاومة من عرابي، وظهرت مرة آخرى مساوئ شخصية ديليسبس واهتمامه بمصلحته فقط وخداعه المتواصل للمصريين وحكامهم.

   بعد سنوات وسنوات قام جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس، وسواء اتفقت مع عبد الناصر أو اختلفت أو رأيت أن توابع هذا القرار كانت قوية وأدت لدخول مصر في حروب كانت غير مستعدة لها أو لا، يجب الاعتراف بأن هذا التأميم رد القناة وخيراتها للمصريين الذين نزفت دماء جدودهم أثناء حفرها، وأيضًا أثناء استردادها.

   مر 161 عام على أول ضربة فأس لحفر القناة الموجودة حاليًا، ربما تذكرنا الآن لأجدادنا من العمال المصريين يكون أقل شيء نقدمه لهم، وربما نتعلم الدرس ولا نجعل زمام أمورنا كشعب في أيدي ضعفاء الإدراك والإرادة ومهوسي العظمة مرة أخرى.

المراجع

  • حضارة مصر د.سليمان حزيّن
  • قناة السويس.. ثأر التاريخ، د.محمد المخزنجي
  • استطلاع بمجلة العربي الكويتية.. العدد 577 ديسمبر 2006
  • القناة بين السخرة والتكنولوچيا والإنجاز د.خالد عزب
  • الملحق الخاص الذي صدر بمناسبة افتتاح قناة السويس الجديدة، جريدة أخبار اليوم السبت 1 أغسطس 2015
  • السخرة في حفر قناة السويس، عبد العزيز الشناوي