العنصرية كيف محاها الإسلام وتمسك بها العرب؟
العنصرية
في ركن بعيد في نهاية قاعة الاجتماعات لمحتها تسحب كرسيًّا لتبتعد قدر الإمكان عن وجوه الناس، جلست بجانبها وسألتها عن السبب قالت أنها لا تحب أن تلفت الأنظار لها أو بالأحرى لشكلها، فقلت لها: وماذا فيكِ؟
فضحكت هازئة، ألا ترين سوداء قصيرة وفوق هذا أتلعثم أحيانًا حين أتكلم كأن الحظ عاندني أو تخطاني حين زار الناس، قلت لها: لكنك حقًّا جميلة، لديك جمال من نوع خاص وابتسامتك جذابة جدًّا، حتى طريقتك في الكلام مبهجة ولطيفة.
قالت هذا رأيك فقط، ليس رأي المدير ولا زملائي هنا، أتعلمين حين تقدمت للعمل وأثناء المقابلة الأولية، سألني المدير بسخرية عن جنسيتي، وقال لى بسماجة: متأكدة أنك لستِ صومالية، ومن ثم قال رئيس القسم حين مال برأسه نحو المدير: نحن نحتاجها يا “ريس” على الأقل لفترة مؤقتة حتى نجد البديل.
كأنه تعمد أن أسمع هذا حتى لا أتأمل أنه تم قبولي وفق إمكانياتي أو مواهبي، وإني بمثابة سد الخانة؛ أما عن مقابل زميلتنا الجميلة نرمين لو تذكرينها، تم تعيينها الأسبوع الماضي، علمت أن المدير وظفها دون أن تجتاز مقابلة العمل، ألقى عليها نظرة فاحصة ثم ابتسم ابتسامة راضية كأن جمالها بطاقة عبور تفتح أمامها كل الأبواب المغلقة وتغنيها عن أي سؤالٍ كان مؤهلات أو قدرات.
قلت لها: لا تحزني هكذا، ربما ههى حقا جيدة في عملها، قالت ربما؛ لكن لماذا يرى الجميع أخطائي فقط؟ لماذا لا يرونني حين أحقق إنجازًا لهذه الشركة؟ ولماذا لا يرى أحد أخطائها ودائمًا يبررون لها؟ أما أنا فلا أجد من ينصفني حتى ولو بنصف كلمة؛ لكن لا بأس فقد اعتدت هذا حتى من أمي، منذ طفولتي وهي تعايرني وتقول لا أدري من تشبهين؟ لستِ شبهي ولا شبه أبيكِ والوحيدة في إخوتك هكذا وتتنهد بحسرة حتى أنها تعزو عدم ارتباطي حتى الآن لشكلي، رغم أني ما زلت في الثالثة والعشرين من عمري؛ وفجأة توقفنا عن الكلام حين لمحنا المدير يرمقنا بنظرات غاضبة لأن الاجتماع على وشك البدء.
تذكرت يومها ذلك العامل السوداني الذي كان يعمل في أحد المصانع “عامل بوفيه”، حكى لى أحد الأقرباء الذي يعمل بنفس المصنع، أن مديرة الفرع كانت تعامله بقسوة شديدة، كأنه عبد لديها -نظف هنا، ضع هناك- حتى أنها كانت تتعمد إهانته أمام ضيوفها؛ ذات يوم قالت له متهكمة: هل غسلت يديك قبل إعداد القهوة، أم هي سوداء دومًا هكذا؟
في إحدى القرى البعيدة عن هذا المصنع، أم العريس وأخواته يُعايرون العروس ليل نهار بأصلها المتواضع وبأبيها الفقير وبجهاز عرسها القليل، إحداهن تُخبرها أنه لولا تعلق العريس بها ما رضينا أبدًا -هي وأخواتها وأمها- عن هذه الزيجة؛ لكنه الكبير وحبيب قلب أمه وأبيه ولا يُرفض له طلب..!
ذات مساء صادف أنني كنت أمُر بالقرب من متجر فاخر للفساتين، وقفت أمام الڤاترينه الزجاج الخارجية أشاهد الفساتين، فإذا بفتاة محجبة وصديقتها منتقبة تدخلان بحثًا عن فستان، ما رأيته من خلف الزجاج هي تعبيرات وجه صاحب المكان تكسوها الغلظة والنفور، ثم خرجت إحدى البنات العاملات بالمتجر “وكانت غير محجبة” وزميلها الشاب يسخران منهما ويقولان: تُرى ماذا يفعلان بالداخل وهل يفهمان أصلًا في هذه التصاميم؟
سيدة ثرية في إحدى البلدان العربية لديها قصر مشيد وحشدٌ من الخدم متعدد الجنسيات؛ لكن لم تعامل أيًّا منهم بلُطف، كانت تسحقهم بالأمر والنهي وأحيانًا تُعاملهم بعنف شديد، وتبخسهم حقهم في أجورهم، وفي نفس الوقت زوجها الذي يملك شركاته الخاصة الكبرى، لديه عمال من باكستان والفلبين يُعاملهم كأنهم متسولون لا موظفون.

معنى العنصرية:
كل ما مضى من قصص ومواقف من أشكال العنصرية والتمييز بين الناس والعنصرية هي:
الأفكار والمُعتقدات والقناعات والتَّصرفات التي ترفع من قيمة مجموعة معينة أو فئة معينة على حساب الفئات الأخرى، بناءً على أمور مورّثة مرتبطة بقدرات الناس أو طباعهم أو عاداتهم، وتعتمد في بعض الأحيان على لون البشرة أو الثقافة أو مكان السّكن أو العادات أو اللغة أو المعتقدات، كما أنّها يُمكن أن تعطي الحق للفئة التي تم رفع شأنها بالتحكّم بالفئات الأخرى في مصائرهم وسلب حقوقهم وإهانتهم بدون حق أو سبب واضحٍ. (1)
والتمييز العنصري يعني:
المعاملة غير المتساوية حيث تتم معاملة الإنسان بشكل أسوء من شخص آخر في نفس الوضع ويمكن أن يكون أساس التمييز مثلًا، الأصل العرقي أو الجنسية، أو الدين، كذلك يعتبر التهديد أو خلق جو من العدائية والتحقير أو الإذلال تمييزًا.
أما أشكال العنصرية أوالتمييز العنصري فهي تكون على أساس:
“لون البشرة، المعتقدات، الطبقات الاجتماعية، القومية، الثقافات، اللغة أو العادات” (2)
● أسباب العنصرية :
ظهرت العنصريّة قديمًا منذ وُجد الإنسان، وتعدُّ أحد أسباب الفتنة، وأبرز أسباب الحروب، وهي من أشد الأمراض فتكًا بالمجتمعات، ولم يخلُ عصر من العصور منها، وأحد الأمثلة هي تجارة الرقيق التي تمارسها بعض الدول على الأفارقة ذوي البشرة السوداء، حيث يصبحون عبيدًا بلا سبب، إلا لاختلافهم في اللون فقط؛ وعانى هؤلاء الأفارقة كثيرًا في أمريكا وأوروبا من التمييز والعنصرية الشديدة، وكافحوا سنين طوال حتى حصلوا على حريتهم ومساواتهم بالبيض وقبول المجتمع لهم واندماجهم الحقيقى فيه، وظاهرة العنصرية لا تنشأ من فراغ بل لها عدة أسباب منها:
- التفاخر بالأنساب والطعن فيها
- الفروق المادية
- الجهل وعدم الوعي بمفهوم العنصرية
- مشاكل نفسية كالغرور والتكبر
- اختلاف اللغة
- الطمع والجشع والاستغلال
- بعض العادات الموروثة
- العقيدة والفكر والثقافة
- هذة الأسباب وغيرها يمكن أن تثير في النفس البشرية سلوك العنصرية السيء.
وقد سنت الأمم المتحدة القوانين للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري فيما يسمى بـ : “الاتفاقية الدولية للقضاء على العنصرية” وبدأ العمل بها في يناير من عام 1969م، ووفقًا للمادة 19 التي ترى أن
” ميثاق الأمم المتحدة يقوم علي مبدأي الكرامة والتساوي الأصيلين في جميع البشر، وأن جميع الدول الأعضاء قد تعهدت باتخاذ إجراءات جماعية وفردية، بالتعاون مع المنظمة، بغية إدراك أحد مقاصد الأمم المتحدة المتمثل في تعزيز وتشجيع الاحترام والمراعاة العالميين لحقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعًا، دون تمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين.”
كيف مح الإسلام العنصرية؟
الإسلام سبقها بما يزيد عن ألف عام ، حين حسم الأمر وساوى بين الناس جميعًا برغم كل اختلافاتهم، بل جعل معيار الأفضلية بين الناس التقوى ومعاملة الناس بإحسان.
فقبل ظهور الإسلام كانت الجزيرة العربية تعج بكل أشكال العنصرية، فكان العرب عندهم التفاخر بالآباء والأنساب، حتى إنهم ليذكرون آباءهم ويفتخرون بهم في موسم الحج، وأثناء إقامة شعائره؛ أما عن المرأة فقد تعرضت المرأة لأبشع صنوف العذاب، والإهانة، والتحقير قبل الإسلام، ويتمثل ذلك في صور كثيرة منها: كانت المرأة تُحرم من الميراث مطلقًا، فلا نصيب لها فيما يتركه أبيها أو أمها، وكانوا يجبرونها على الزواج بمن لا ترغب فيه، أو يمنعونها من الزواج، هذا غير الوأد وهو دفنها عقب ولادتها خشية وقوعها في الأسر وجلب العار لهم.
وقد كانت تقوم بينهم الحروب لأتفه الأسباب، والتي يكون وراء معظمها التعصب للقبيلة أو العشيرة، إذن فقد كان مجتمعًا عنصريًّ بامتياز يحتاج للتطهير من هذا السلوك البشع وتلك الممارسات العنصرية، وقد جاء الإسلام ليمحو كل هذا بتشريعه العظيم.
فقال الله -عز وجل-:
“يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير”
وأساس القرب والتميز عند الله هو التقوى، ومن التقوى أن تكون محسنًا في معاملتك للناس جميعًا وهذا يتنافى تمامًا مع العنصرية، بل حرص الإسلام أشد الحرص على مشاعر الناس جميعًا مهما اختلفت ديانتهم، حيث قال عز وجل:
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ”
لم يحدد الله -عز وجل- نوع القوم، بل نهى المسلمين عن السخرية من أحد، أو التحدث عنه بسوء، أو مناداته بلقب يكرهه، بل وصف من يقوم بذلك بأنه من الظالمين ظلم نفسه والناس بمعاملته السيئة لهم .
أما آيات العدل بين الناس في القرآن كثيرة فمنها، “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ”
ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا” قال الطبري في تفسيرها: “أي لا يحملنكم عداوةُ قوم على ألا تعدلوا في حكمكم فيهم فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم وبينهم من العداوة.
أما عن النبي -صلى الله عليه وسلم، فقد كان القدوة الحسنة في الإحسان إلى الناس، والمساواة بينهم ومعاملتهم جميعًا بألطف ما يكون، وهذه شهادة سيدنا أنس بن مالك خادم النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “خدمت النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين فما قال لي أفٍّ قَطُّ، وما قال لشيء صنعته لِمَ صنعته، ولا لشيء تركته لِمَ تركته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خُلُقًا”.
ومن حسن خلقه -صلى الله عليه وسلم- ثناؤه على صوت سيدنا بلال في الأذان، وكان سيدنا بلال -رضي الله عنه- من الحبشة -أثيوبيا حاليًا- أتى مكة عبر تجارة الرقيق، كان عبدًا حتى أعتقه سيدنا أبو بكر، فكان العرب يعيرونه بلونه وبلده، فلما جاء الإسلام حرم هذا ومحا هذه العنصرية المقيتة بين الناس.
وفي خطبة الوداع أكد النبي صلى الله عليه وسلم على هذا المعنى العظيم فقال صلى الله عليه وسلم:
” يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى”
كأنه -صلى الله عليه وسلم- يوصي الناس ببعضهم البعض، أن كونوا رحماء بينكم، تقبلوا اختلافاتكم الرائعة وأحسنوا معاملتكم لبعضكم، فإن التقوى هي المعيار والمساواة بين الناس هي الأساس، فالله لا ينظر إلا أشكال الناس، بل ينظر إلى قلوبهم ويحاسبهم على أفعالهم.
فلماذا يُصر عرب اليوم على العودة إلى ما كانوا عليه في الجاهلية، وقد هداهم الله للإسلام وساوى بينهم وجعل الأفضلية لأكثرهم قربًا إلى الله ؟
ولا يحدث هذ بالقول، بل بالأفعال الصالحة والخصال الحميدة.