الحب عند الفلاسفة من القدم حتى الحداثة

Comments 0

الحب تلك التجربة الذاتية الأزلية الأبدية، فهي موجودة قبل وجود الإنسان ومستمرة معه وباقية بعده، بل إن بعض الفلاسفة أكدوا على صبغتها الميتافيزيقية بمعني أنها تتعدى الوجود الطبيعي الملموس وتتعلق بالماورائيات.

وهناك اعتقاد بأن الفلسفة والحب لا يلتقيان أبدًا في غرفة واحدة، فهذا كيوبيد رمز الحب في الأساطير الذي يحمل في ذاته ثنائية الرقة والعدوانية في آن واحد يخفي تحت جناحيه قوسًا وسهمًا قاتلين سيلاحقك حتى يطلق سهمه في قلبك لتخضع لمحبوبك.

والحقيقة أن النزعة التشاؤمية في الفلسفة خاصة عند الأخلاقيين الفرنسيين قد انتصرت في معركة الحب، وكذلك السطحية التي تعامل بها المفكرون المعاصرون مع مشكلة الحب جعلته يظهر كالصحراء الجرداء في ميدان الفلسفة فلم يحاول الكثير مواجهة الرؤى المختلفة للفلاسفة حول الحب، واكتفوا بالتركيز على الأفكار العدمية والجنسية بالإضافة للشكل الروائي لقصص الحب والجنس إلى أن وصلنا في عصرنا الحالي إلى الاكتفاء بالكلام عن الحب داخل محاضرات التنمية البشرية وبين صفحات الروايات الرومانسية وسماع مفرداته في الأغاني الشعبية.

وقد عبر الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور عن هذه السطحية في كتابه (العالم إرادة وتمثلا) الصادر في القرن الثامن عشر قائلًا:

(لا بد وأن تظهر علينا إمارات الدهشة لأن موضوعًا يحتل دورًا بهذه الأهمية في الحياة الإنسانية لم ينظر له الفلاسفة بعين الاعتبار حتى الآن، بل ويقدم إلينا كما لو كان مادة لم تتم تجربتها بعد).

ولا شك أن هناك سخرية ومبالغة شديدة في كتاب شوبنهاور واختزال شكل الحب عند بعض الفلاسفة في أنه مجرد فعل جسدي وتجربة جنسية.

ومن هنا سندافع عن فلسفة الحب ونقدم بعض مصادره في ميدان الفلسفة ونعرض تجارب الحب لمجموعة من الفلاسفة.

مأدبة أفلاطون والإله إيروس

يمثل الكتاب الشهير (المأدبة: فلسفة الحب) جلسة سكْر جماعية في منزل الشاعر إجاتون احتفالًا بفوزه في مسابقة للشعر الليلة الماضية حيث تجمع مجموعة من الأرستقراطيين المخمورين ومعهم سقراط والشاعر أرستوفان عدوه اللدود وبجانب ذلك كانت هناك كاهنة تسمى (ديوتيم دومانتيني) غائبة جسديًّا وحاضرة روحيًّا من خلال صوت أرسطو المعبر عنها باعتبارها الخبيرة العالمة بحقيقة الحب.

واتفق الضيوف على إقامة مسابقة شفهية يكون الفائز فيها هو صاحب أفضل مديح للإله إيروس إله الحب عند الإغريق المماثل لكيوبيد عند الرومان.

ودارت المحاورة بين الضيوف السكارى منتقلين بين الضحك والحديث عن الحب فيقول أحدهم أن الحب يدفع الإنسان نحو التصرفات الصائبة وأن جيشًا من العشاق قادر على هزيمة جيش لا يهزم.

ثم يضيف آخر بأن الحب مزدوج ينصب على الروح وهو ما ميز بين إيروس النبيل وإيروس العامي.

ويرد ثالث بأن الحب علاقة بين الإنسان والرب.

ثم يأتي النقاش الأهم في الجلسة بين أرسطو وعدوه أرستوفان الذي حكى أن الإنسان كان في أصله فلك، وكان يظهر في ثلاثة أشكال ذكر وأنثى وخنثى ولكي يتوالدون اتحدوا على الأرض وزادت قوتهم وحاربوا الآلهة، فقام زيوس بقسمهم إلى نصفين مثل البرتقالة وعاش البشر أنصاف مشوهين محاولين أن يجدوا أنصافهم ليتبادلوا معهم الحب والعناق.

 ومن هذا الافتقاد ولد إيروس الذي جعلهم يحنون إلى من فقدوهم أما زيوس الذي أخذته الشفقة عليهم خوفًا أن يفقد عشاقه فبدل أعضائهم من الخلف للإمام لمساعدتهم على العناق والإنجاب.

أما سقراط فكان له رأي معارض حيث أكد أن إدراك الحب يتعلق بالإجابة عن السؤال (لماذا أحبه؟) بدلًا من (لماذا يحبني؟) وهنا يتجلى أصل إيروس.

وأوضح ميلاد إيروس بأنه يوم ولادة أفروديت كان هناك احتفال عند الآلهة وكان حاضرًا (الإله بارع) ابن الحكمة فسكر ونام في الحديقة ووصلت (الحاجة) كي تجمع الفتات وعندما وجدته في الحديقة استلقت بجانبه لتحصل على ابن يخلصها من الفقر وهكذا ولد الحب.

وكشفت الكاهنة هذا الجانب الغامض في إيروس بأنه ليس إلهًا بل وسيطًا بين البشر والآلهة فهو ليس جميلًا ولا قبيحًا، وكذلك ليس جاهلًا ولا عالمًا، ولا غنيًّا ولا فقيرًا فهو جني وبفضل رعاية أفروديت له أصبح قوة متنامية تحركها الرغبة للجمال.

إذ اتخذت دور المشاهد في هذه المأدبة فأنت تستخلص مجموعة محاور أساسية لفلسفة الحب عند هؤلاء الفلاسفة.

أولها: أن الحب علاقة متبادلة بين طرفين يحتاج كلا منهما الآخر و يؤثران في بعضهما.
ثانيًا: أن للحب قوة جبارة تدمر أي عقبة أمام هذه العلاقة المزدوجة.
ثالثًا: أن الافتقاد والبحث عن توأم الروح لهما دور أساسي ومحوري في الاحتياج العاطفي ولعل هذا المحور لا يختلف فيه رأيان في كل الأزمان.

أما المحور الأخير فيتعلق بذاتك الداخلية بسؤال نفسك عن الحب نفسه والفرق بين ما أحب وما يحبني ولماذا أحببت وهنا محور ذاتي بحت تتعدد نظرياته بعدد الأنفاس.

إيمانويل كانط وتراجيديا الحب

 لم يعرف للفيلسوف الألماني أي علاقة عاطفية طوال حياته بشكل واضح فليس هناك زوجة أو عشيقة أو أولاد.

ولكنه حكي قصة تتمثل فيها العاطفة والحب الجياش الذي غير حياته إلى الأبد حيث وهو في الثالثة عشر كانت لأمه صديقة مقربة مخطوبة لرجل خانها وتزوج بأخرى فمرضت مرضًا شديدًا وبقيت أمه بجانبها لترعاها وتمرضها ولكنها رفضت الدواء الذي كان مرًّا جدًّا ولكي تقنعها أمه بأخذ الدواء تناولت منه أمامها ولكنها سريعًا ما شعرت بالإعياء وماتت في ليلتها.

ماتت أمه ضحية الحب والصداقة وتأثرت فلسفته بهذا التحول فلم يتزوج واختار الخلود من خلال العمل الأدبي بدلًا من الذرية.

لم يعش كانط قصة حب بالمعنى الواضح ولكنه تأثر بأخرى شاهدها واستخلص منها أن الحب علاقة معدية بالضرورة تنتقل وتؤثر في ما حولها والحقيقة أنه على حق فأنت عندما تشاهد فيلمًا رومانسيًّا أو تستمع إلى أغنية عاطفية سريعًا ما تتحرك مشاعرك وتتأثر بما ألقي عليك من كلمات ومشاهد الحب.

آرثر شوبنهاور ووهم الحب 

يرى الفيلسوف المخلص للعزوبية أن الحياة مجرد شقاء لا نهائي يجب الخلاص منه وبالطبع من هذه الولادة الكئيبة فلن نجد في فلسفته أرضًا خصبة لما يسمى حبًّا.

يؤكد في كتاباته أن هذا الوهم الذي يقال عنه الحب لا يمارسه اثنان إلا في السر بعيدًا عن الأنظار ببساطة لأنهما يشعران داخليًّا بأنهما خائنان يبحثان عن تمديد هذا الشقاء والألم.

وأن الحبيبين اللذين يعيشان معًا تحت وهم الحب هما في الواقع يسيران وفق القطيع الذي هدفه هذا الطفل الزنان على حد قوله وأن الجنس البشري بأكمله يسعى لهذا الهدف في نهاية الأمر.

كما أعلن الحرب على النساء قائلًا:

(لا ترغب النساء في فناء الجنس البشري، ولهذا اكرهن).

ولهذا وجد أنه لا بد من هدم هذا الكائن الذي يبحث عن رجل ليتكفل بها وبأبنائها رغمًا عنه وهدفها الأساسي هو إطالة شقاء الجنس البشري لذا فلا بد من تدمير إنتاجها بأي ثمن.

فلسفة متشائمة ونظرة متطرفة للحب والنساء لا داعي لها على الأرجح، ولكنها كانت موجودة عند شوبنهاور متأثرة بنظرته للحياة ككل وبالتالي تأثرت بها كل آراؤه ولعل لهذا الجنون سببًا مخفيًّا في سطور حياته التي لم نقرأها.

سورين كيركيجارد والحب الأبدي

عندما كان في الخامسة والعشرين تقابل مع (ريجينا أولسن) صاحبة الأعوام الأربعة عشر ووقع في حبها من النظرة الأولى، اهتم بها وتقدم لخطبتها بعد ثلاث سنوات، في اليوم التالي كتب في مذكراته:

(عرفت على الفور أني ارتكبت خطأ.. بالنسبة لتائب مثلي يكفي ما لدي من حزن).

وبعد إحدى عشر شهرًا أرسل لها خاتم الخطوبة مع رسالة قال فيها:

في بلاد الشرق يعني إرسال حزام من الحرير أن المرسل إليه سوف يموت، أما هنا فإرسال الخاتم يعني أن المرسل هو الذي سيموت.

المفارقة الأشهر في تاريخ قصص حب الفلاسفة لها أسبابها وهي أن كيركيجارد كان يعتقد أنه حامل لخطيئة قام بها والده يومًا ما في طفولته.

كان والده طفل يعمل راعيًا ويومًا ما أصابه اليأس والتعب فأنكر وجود الرب منذ ذلك الحين وهو يعتقد أن العقاب سينزل عليه في أي وقت وكان له ستة أبناء، وقاده فكره المتطرف إلى أن كل أبنائه يموتون قبل بلوغ سن السيد المسيح.

وقبل بلوغهم سن الواحد وعشرين دفن كيركيجارد خمسة من إخوته بالإضافة إلى أمه وبقي الأب العجوز حامل الخطيئة الذي رأى أن عليه التضحية بآخر أبنائه كما فعل النبي إبراهيم فاعترف له بخطيئته قبل موته.

ومن هنا عاش محافظًا على حبه الأبدي لخطيبته وكانت جميع كتاباته رسائل مشفرة لها، فكان حبه لها أبديًّا إلهيًّا يقوده إلى الإيمان، ومات في عمر الثانية والأربعين، ووجدت وصيته في خزانة مع كل ما يذكره بها بجانب نسختان من كل ما ألف بأسماء مستعارة نسخة له ونسخة لها، وكذلك رسالة لها تفتح بعد موته كما أوصى أن كل أملاكه تذهب إليها كما لو كانوا متزوجين.

الحب اللامشروط واللامنطقي في الوقت نفسه يتجلى في هذه القصة التي كان الدين أكبر مؤثر فيها، لا شك أنها تجربة مرهقة لا تتكرر فصرخ قائلًا: 

“جربوا الحب فهو مركز الوجود”.

لا شك أنه كان قاسيًا، تختلف وجهات النظر حوله سواء كان مدان أو ضحية ولكنه خلد ذكر حبيبته من خلال أعماله قائلًا:
“إليك.. إلى الأبد”.

والخلاصة بعد عرضنا أربع نظريات تنوعت بين الحب المثالي، والحب التراجيدي، وكذلك الحب الوهمي، بالإضافة للحب الأبدي الديني، فيجب أن نطرح بعض الأسئلة المهمة..

هل ظهرت فلسفة الحب كمقاومة للعدمية؟
وهل اختزل الجنس في مجرد التحرر واللذة؟
وهل ستنتهي الفكرة السائدة بأن الحب يتعارض مع العقلانية المسيطرة على العالم؟

بعد هذا العرض نترك للقارئ مهمة التقدير مع ملاحظة أن الفكر المتعلق بالحب قد كتب بدم الفلاسفة وتجاربهم الشخصية ونزواتهم، وكذلك يجب النظر إلى أن الفكر الفلسفي كتب أيضًا بأقلام ذكورية بمعنى أننا سمعنا آراء نصف البشر!

وفي النهاية فالفلسفة هي محبة الحكمة، ولذا فكل من يهتم بالفلسفة عاشق.

المصادر:

1/كتاب الفلاسفة والحب تأليف ماري لومونييه _ أود لانسولان
2/ المأدبة: فلسفة الحب تأليف أفلاطون