أوجست كونت.. السعادة عدوى ولكني لم أصب بها
المجتمع له تأثير كبير على تشكيل عقولنا ومفاهيمنا للكثير من الأشياء، وحتى أحلامنا تتشكل من قبل الحياة المجتمعية التي نعيش بداخلها، فقد تشكل فكر الفلاسفة والمفكرين بأفكار وتأثير مجتمعهم.
أوجست كونت هو رائد من رواد علم الاجتماع، ويعتبر الأب الشرعي للفلسفة الوضعية، عاش كونت فترة تقلبت فيها أمور فرنسا بين الثورة والردة نحو الرجعية، وبين الحرية والديكتاتورية وسيطرة الحكام ومقاومتهم لأي تغيير بل ومحاولة القضاء على آثار الثورة الفرنسية، فمرت فرنسا بسبع نظم سياسية وعددًا من أنواع التمرد خلال خمسين عامًا، وأثر كل ذلك في تشكيل أفكار الفلاسفة.
من هو أوجست كونت؟
هو إيزيدور أوجست ماري فرانسو قزاويه كونت، فيلسوف فرنسي ولد في مونبلييه ١٩ يناير ١٧٩٨ في أقليم هيرولت، وأتم التحصيل الابتدائي في دار الفنون في باريس حيث امتاز فيها بعصيانه للسلطة الرسمية الحاكمة واحترامه الشديد للكمال الخلقي والفكري ولكنه لم يمكث فيها، فقد ترأس احتجاجًا على أساتذتها، مما أدى إلى طرده من المدرسة.
حياة كونت
عاش كونت في أسرة ميسورة متدينة شديدة التعلق بالنصرانية الكاثوليكية، فكان من الطبيعي أن يكون مثل عائلته متدينًا، إلا أنه في سن الرابعة عشر نبذه الإيمان بمبادئ الدين، كما امتاز في الرياضيات فالتحق بمدرسة الهندسة بباريس، لكنه لم يكمل دراسته بسبب الظروف السياسية.
كما تميز في الفلسفة واعتمد في قراءته الخاصة ع كتب هيوم ودي مستر ودي بونالد وفي عام ١٨١٩ تعرف على الكاتب الفرنسي الشهير سان سيمون وهو من رواد المذهب الاشتراكي في القرن التاسع عشر، واتفقا على العمل معًا، وكان سان سايمون شغوفًا بالسياسة، بينما كان كونت شغوفًا بالعلم، ولكنه كان بمثابة أستاذه الذي تعلم منه وتأثر بأفكاره كثيرًا، وطالما كان كونت يقول أن لسان سايمون له فضل كبير في ما وصل له، ولكن بالرغم من ذلك افترق عنه كونت بسبب اختلاف الاتجاهات بينهم.
اتجاه كونت لإلقاء المحاضرات
قدم كونت عدد من المحاضرات عن فلسفة الحياة، وبالرغم من أنها جذبت جمهورًا مميزًا من المستمعين إلا أنها توقفت بعد إلقاء ثلاث محاضرات فقط، عندما تعرض كونت لأزمة عقلية، حتى أنه حاول الانتحار في نهر السين، وتم إنقاذه من قبل ضابطين من الشرطة كانوا يمرون حينها.
ولكنه عاد في عام ١٨٢٩ إلى إلقاء محاضراته التي نشرها في ستة أجزاء وسميت محاضرات الفلسفة الوضعية.
إنجازات أوجست كونت
كان لكونت العديد من الاهتمامات، فقد كتب في فلسفة العلوم الفيزيائية والكيميائية والرياضية، وفي السياسية وعلم الإجتماع، وكتب في الدين والقضايا الروحية والميتافيزيقية.
يرى كونت أن الفكر البشري مر خلال تطوره التاريخي بثلاث مراحل: المرحلة اللاهوتية التي تعلل الأشياء والظواهر بكائنات وقوى غيبية، والمرحلة الميتافيزيقية التي تعتمد على الإدراك المجرد، والمرحلة الوضعية التي يتوقف فيها الفكر عن تعليل الظواهر بالرجوع إلى المبادئ الأولى ويكتفي باكتشاف قوانين علاقات الأشياء عن طريق الملاحظة والتجربة الحسية. ويعتبر كونت أن العلم الذي يتفق مع المرحلة الوضعية ويساعد على فهم الإنسان ويستوعب جميع العلوم التي سبقته هو علم الاجتماع.
نبذة عن الفلسفة الوضعية
تعرف الفلسفة الوضعية بأنها إحدى فلسفات العلوم التي تعتمد في تعريفاتها وأفكارها وميولها واتجاهاتها على دلائل مقنعة واقعية مثلها مثل العلوم الطبيعية، والفلسفة الوضعية تنظر إلى الأمور وتقيم مدى صحتها بعد أن تصل إلى معرفة حقيقية نحوها وهي معرفة البيانات المستمدة من التجربة الحسية، والمعالجات المنطقية والرياضية لمثل هذه البيانات.
وكان كونت أول من أطلق مصطلح الفلسفة الوضعية في القرن التاسع عشر، كما كان أول من استخدم مصطلح علم الاجتماع، ولخص علم الاجتماع على أنه هو آخر العلوم وأنقاها، وقد انتهى في نفس الزمن من تأليف كتابه مذهب في السياسة الوضعية والذي كان مفاده هو إعادة بناء المجتمع وكان له تأثير قوي على منظري علم الاجتماع الأوائل خاصة هربرت سبنسر وأميل دوركيم.
إذا أردت التعاطف مع كونت عليك أن تتصور حالته التعيسة وحياته المظلمة وظروف نشأته التي كانت لها الفضل الأكبر في تشكيل أفكاره، ولكن بالرغم من كل هذه الظلمات وصل إلى غايته وفاز بما أراد.
أسلوب كونت الأدبي
لم يكن كونت يكتب كلمة قبل أن يقرر الموضوع ويكتبه جملة بجملة بعد ترتيبها في عقله، وعندما ينتهي من تسجيل هذه الأفكار، يبدأ كتابتها وبالرغم من أن أسلوبه الكتابي لم يكن مميزًا كأفكاره اللامعة، وإن كنا لا نتوقع منه كتابة كالشعر في تأثيرها وسلاستها، ولكننا يمكننا القول أنه بالرغم من مؤلفاته العظيمة فأسلوبه الكتابي لم يكن جزءًا من تلك العظمة.
كونت ومفهومه عن التاريخ
كان كونت وعلماء عهده يحاولون أخذ العلم الاجتماعي المثبت من قوانين الطبيعة البشرية العامة ثم يجعلون الوقائع التاريخية دليلًا على صحة تلك الاستنتاجات وكانت هذه نظرية كونت حيث قال كونت إذا أشارت القوانين العامة على ما لا يؤيده شاهد من تاريخ واجب علينا أن نحكم بفساد التاريخ واختلاله. وكلما بحث الناس في الحضارة ازدادوا ثقة في تدوين الحوادث التاريخية، وإذا كان التاريخ يدلنا على كيفية الرقي البشري عبر العصور فهذا لا يعني أن نتخذه سننًا ولا يضع قانونًا، فعندما نريد معرفة القوانين علينا أن نعود إلى علم النفس (البسيكولوجيا).
وفاة أوجست كونت
توفي كونت عام ١٨٥٧ في باريس بعد أن أصابه المرض، واعتزل العالم كله وتم دفنه في مقبرة بيرلا شيز