النزعة الصوفية في الأدب المعاصر

يدور المتصوفة في حلقاتهم حول ذواتهم، وتدور أفكارهم فوق الحروف وتحت القوافي، تتسرب مفرداتهم وشخوصهم إلى عمق الروايات، يتسابق المؤدون إلى غناء قصائدهم، و يميل رأس الغرب نحو الشّرق ليستمع إلى حكاياتهم. فلماذا عاد إرثهم الأدبيّ إلى الظّهور حتى بين غير الممارسين لطرقهم؟!!

الصوفي الممارس و النص الصوفي الأصلي:

يقفُ الموروث الأدبي الصّوفي على مصطبة الشّعر ويعلي قامته، يختلف الشّعر الصّوفي بمضمونه عن الشّعر التقليدي القائم على التوصيف والتشخيص، يُفعل خاصية الرّمزية بأسلوب عاطفي يمسّ الدواخل بنسائم الحنين والشّجن، لا تجدُ فيه كلمات معبرة أو مجسمة، فكلّ مفردة لها عمق دلالي بليغ مفتوح على التأويل. جدلية الرّمزيات في هذا النمط من الشّعر كانت مقصلةً فيما مضى طارت من خلفها رؤوس وسُفكت دماء، لأنها سجلت قناعات وأفكار صائغيها، وتأصلت في التّعبير عن معتقدات أصحابها كفرقة إسلامية لها طرقها وشيوخها ومفرداتها. قصائد رموز الصّوفية من رابعة العدوية إلى الحلاج وبن الفارض وجلال الدّين الروميّ، كانت رسالة لمعتقداتهم ومرآة لطرق تعبدهم. و هذا هو النّص الصّوفي الأصلي الذّي يقف خلفه الصّوفي الممارس، ويختلف تجذراً عن الظّاهرة الصّوفية في النّص.

الظاهرة الصوفية في النّص:

الظّاهرة الصّوفية في النّص تتحرر من المرجعية الدينية، و تستبقي الجانب الإنساني والرغبة بالسّمو البشري والسلام الدّاخلي. طبيعة النّص الصّوفي تلائم التعطش البشريّ للتواجد بآليات سردها و فنيّاتها البلاغيّة. ولا يمكن تصنيفها كأدبٍ إسلاميّ بل كأدبٍ روحيّ. وهناك الكثير من الكُّتاب اليسارين والعلمانين وغير المسلمين أوردوها في نصوصهم، على رأسهم الأديب البرازيلي “باولو كويلو” الذي لم يخفِ تأثره بالصّوفية في جميع مقابلاته، واستمد من تراثها و تعاليمها أغلب رواياته.

التعطش العالمي للآداب الرّوحانية:

في مطلع الثمانينيات وجدت المجتمعات المنتجة نفسها أمام “ازمة ثقة” بعد أن تكسرت وعودها لأفرادها بالرّخاء والسّعادة والنّجاح. فعندما ارتفعت الأبنية تضاءل الإنسان، قدمت القروض التي اشترت كل شيء إلا الطمأنينة، تطور الدواء و تراجعت الصّحة. فكان نداء اليقظة دافعاً للإنسان للانفتاح على ذاته، وتحييد مساره الشّخصي عن مسار مجتمعه. وكان الاستشراق الغربي باتجاه المدارس البوذيّة والهندوسيّة والصوفية.

القارئ الانتقائي وتلبية احتياجاته :

لم تعد الجموع بحاجة الكاتب الذّي يضيقُ عليها الأرض ويغلق فوق أحلامها متاريس الواقع، فالإنسان الذي سبقته السيارات والدّراجات وقطارات الأنفاق فقد رغبته بمن يعلمه السير على قدمين، بل يحتاج من يجعل لروحه اجنحة و يحلق بها لتحقق أسطورتها. أنهكت العقلانية والواقعية أماني الجميع، و كان الرّمز أفضل طريقة للإفضاء، يلامسُ في كل ليلٍّ ظلمته وفي كل إشراقٍ نوره، لا يشعرُ القارئ بالإقصاء أبداً مهما كان غريباً عن الكاتب. بل في كلّ سياق تشيرُ أصابع المجاز إلى رحلته الشّخصية، فأكبر خدمة يقدمها الإنسان لنفسه أن يهبها السّلام.

الظاهرة الصوفية في الرّواية العربية المعاصرة:

الرواية العربية أيضاً بدأت تنتهج لنفسها نهجاً صوفياً، واللجوء إلى التجربة الصوفية والاغتراف من بحورها العميقة قد صار ممارسة إبداعية. وخير دليلٍ على هذا هو أن الرواية الفائزة بجائزة البوكر العربية بنسختها الأخيرة هي رواية تخيليّة عن حياة أحد أولياء الصوفيّة، هذه الرواية هي “موت صغير” للكاتب السّعودي “محمد حسن علوان”، تتحدث عن سيرة مبتدعة  لمحيّ الدين بن عربي الأندلسي أحد أقطاب الصوفية. هذا النمط من الروايات يقوم على “صوفنة” الشخصيات، وتتبع الأسلوب الدراويشيّ في الحياة والتجليات الروحية في رحلة المصير، معتمدين على تسخير طاقة الكون وإفساح المجال أمام عين القلب والبصيرة، أما النمط الآخر من الروايات وهو القائم على استخدام مصطلحات صوفية ضمن حبكة معاصرة، تكون فيها الصّوفية عارضة ومؤقتة وتساعد في حل محنة وجودية لصاحبها.

مفهوم المصطلح الصوفي:

“المصطلح الصّوفي” ليس مجرد دال ومدلول، وكشف معناه ليس أمراً سهلاً، له وجهان؛ ظاهري يدركه العامة و باطني لا يدركه إلا الخاصة، فالخمرة مثلاً لا تمثل السُكر والخبث والرجس، و لكنها تأخذ دلالة إيجابية تعني الصّفاء والانتشاء الوّجداني. ولهذا الغرض أوجدت معاجم خاصة للمصطلحات الصّوفية، تغوص في أعماقها كشفاً وتأويلاً. لنا أن نتوقع في هذه النصوص كلمات مثل (الاغتراب، الحضرة، الفيض، التجلي، المريد، الرحلة، الحج). فلقد اعتمد الصوفيّون في مصطلحاتهم على الذّوق والقلب، فترى تفسيراتهم مبنية على الحدس والاصطفاء الروحي.

اسقاطات الاغتراب الروحي في الصوفية:

“الاغتراب الرّوحي” مفردة رئيسة في النصوص الصّوفية، يرى المتصوفة أن اغتراب الإنسان بدأ منذ هبوطه من داره الأولى “الجنة”، واستمر اغترابه كنمط من أنماط حياته إلى حدّ قد يأخذ أبعاداً ميتافيزيقية تصل لخروج الرّوح من الجسد، يقول ابن عربيّ مثلاً :” كانت الأرحام وطننا فاغتربنا عنها بالولادة”. هذه الجزيئة تماشت مع تحول الإنسان من  كائن شعوريّ إلى كائن أدائي منغمس في متطلبات الحيّاة، فالغربة لم تعدّ كما عرفتها اللّغة البعد عن الوطن، بل عزل الإنسان عن ذاته و جوهره .

الرحلة في النصوص الصوفية بين الترحال و التنور:

من الناحية الإنثربولوجية (الأنثربولوجي:علم الإنسان وسلوكه) فإن السّفر كسلوك بشري يفتح للقائم به آفاقاً واسعة من الإدراك والخبرة، ويسمح له باكتساب سلوكيات جديدة وعيش التجربة. وكما أسلفنا فإن كلمة “الرحلة” من المصطلحات المتكررة بين أتباع الصوفية، أليست الحيّاة بحدّ ذاتها رحلة؟!

الرحلة في الأدب الصّوفي قد تكون “تأسيسية” أي تهدف لتأسيس تجربة من خلال البحث عن الشّيخ والمربيّ، أو قد تكون “تنويرية” للتفكر بعجائب صنع الله ومصائر الخلق وإشباع الطمأنينة الداخلية. إضافة إلى رحلة “الحج” وما تحمله من رمزيات وعبادات. 

الرّوايات الصّوفية كأفضل مبيعات:

حققت الروايات المستندة على أسس صوفية نجاحاً باهراً، فكتب “الخيميائي” و”طعام صلاة حب” كانت الأكثر مبيعاً، وتسابق المنتجون على تحويلها إلى أفلام. ثمّ جاءت رواية “قواعد العشق الأربعون” للكاتبة التركية “أليف شافاق” لتحطّم كل الأرقام، وتبشر بسيرة شاعر الصّوفية الأبرز “جلال الدّين الروميّ” وعلاقته بصديق عمره “شمس الدّين التبرزيّ”. وإن كان “جلال الدين الرومي” قد أختير بحسب إحصائيات هيئة الإذاعة البريطانية كشاعر أميركا الأول قبل نشر الرّواية بثلاث سنوات. و”قواعد العشق الأربعون” ليست الرّواية الوحيدة التي تناولت حياة الروميّ، هناك أيضاً “الروميّ: نار العشق” للكاتبة الإيرانية “نهال تجدد”، و”بنت مولانا” للكاتبة الفرنسية “مورل مفري”.

مساكن الأرواح الجديدة:

في حضرة الطّواحين الدّائرة وتحت مسامير الماديّة التي تنخر في الأرواح تثقباً وتشظياً، ستأخذُ الضّمادات شكلاً فكريّاً مرمماً، وتتجمع الشّتات بخيط كلمة تلملم إيمان المرء بالإنسان ذاته، ستتوازى الكتوف منتصبة في سعيها، حتى تبدو للجموع في تكتلها واحداً. إن هذه الأجساد فارغة، حان للإنسان أن يجدّ سكناً جديداً لروحه، فأعاد تدوير الزاد القديم لإيجاد قوتٍ لذاته، وعادت الظّاهرة الصّوفية للظهور في الأدب الإنساني وإن كان لاحتياجات مختلفة عن التي بدأت بها.