إدوارد سعيد.. خارج المكان بحثًا عن الهوية
هكذا عَنون إدوارد سعيد ما كتب عن حياته ومذكراته، أكثر صوت فعال في الدفاع عن القضية الفلسطينية، الفلسطيني اللبناني الأمريكي المصري، البروفيسور الملقب ب “بروفيسور الإرهاب” كما رأته الجماعات اليهودية الصهيونية المتطرفة، الجيش الذي وقف أمام امتلاك القامعين لامتلاك عقول المقموعين، عدو البِنية الفكرية الصهيونية بجوهرها، أستاذ الأدب المقارن واللغة الإنجليزية بجامعة كولومبيا في نيويورك الموسيقيّ بامتياز، والذي من مكانه أضاء شموعا جديدة في كيفية رؤية الآخر مستندا على الاستشراق كفكرة ومنهاج.
ولد إدوارد بقلب القدس، في عام 1935، لعائلة مسيحية، أب فلسطيني وأم فلسطينية نصف لبنانية، كان أبوه حاملا للجنسية الأمريكية حيث شارك في صف الأمريكان في الحرب العالمية الأولى، له من الإخوه أربع شقيقات، أسس والده بالقاهرة شركة للأدوات المكتبية، فكان يتنقل إدوارد بين القدس والناصرية-بلدة امه- والقاهرة التي ارتاد مدارسها، لست أسرد قصة حياة إدوارد ولست صانعا لفيلم وثائقي، بل أريد أن أصل إلى حقيقة فلسطينية إدوارد وديع سعيد.
“أنا من هناك
أنا من هنا
ولستُ هناك
ولستُ هنا.
لِيَ اسمان يلتقيان ويفترقان
ولي لُغَتان, نسيتُ بأيِّهما كنتَ أحلَمُ
لي لُغةٌ انكليزيّةٌ للكتابةِ طيِّعةُ المفردات
ولي لُغَةٌ من حوار السماء مع القدس،فضيَّةُ النَبْرِ، لكنها لا تُطيع مُخَيّلتي.”[طباق]
قد فكرت في عنونة هذا المقال ب “طباق” تلك القصيدة البديعة التي نقّب بها محمود درويش في قلب ومعتقدات صديقه إدوارد، هم اللذان كتبا وثيقة إعلان دولة فلسطين في نوفمبر من العام 1988 والتي قيلت على لسان أبي عمار ياسر عرفات، لكن بلاغة معنى “خارج المكان” منعتني، لكني لن أنفك عن مداواة هذا المحتوى بما جاء في “طِباق”.
في نهاية الأربعينيات أرسله والده وهو مايزال فتى إلى مدرسة إنجليزية بالاسكندرية لأصحاب الثراء، لكنه طرد منها واعترف بذلك جليا، واعترف بأن أمه كان تناديه بالفتى المشاغب، طرد من المدرسة من أجل شغبه، لكن أبوه أرسله إلى “ماساتشوستس” مدرسة داخلية في الولايات المتحدة، ومن هنا بدأت صراعات جديدة تقوم، أول سنواته وصفها في مذكراته “خارج المكان” بأنها أصعب سنواته حيث أحس أنه بالفعل خارج المكان، لكنه فيم بعد أحب نيويورك لأنه مكان لا ينتمي إليه أحد ولا أحد يتلائم معها كليا، الكل هناك في المنفى، أحس بالانتماء لنيويورك لأن لا أحد ينتمي لنيويورك.
لكنه سرعان ما استعاد نفسه، وكان في الترتيب الأول او الثاني في المدرسة، إلى أن أكمل دراسته للأدب في جامعة برينستون، ثم الماجيستير والدكتوراة في الأدب المقارن من جامعة هارفارد، كل من قابله، وتلك الثقافات المختلفة نمّت لديه شعور أنه خارج المكان، لكن الحياة تستمر.
كان ذلك الشعور قديما لدى إدوارد فقد كتب في بداية مذكراته:
“تخترع جميع العاءلات آباءها وأبناءها وتمنح كل واحد منهم قصة وشخصية ومصيرا بل انها تمنحه لغته الخاصة وقع خطأ في الطريقة التي تم اختراعي بها وتركيبي في عالم والديّ وشقيقاتي الأربع فخلال القسط الأوفر من حياتي المبكرة لم استطع أن اتبين ما إذا كان ذلك ناجما عن خطأي المستمر في تمثيل دوري أو عن عطب كبير في كياني ذاته”
بداية من اسمه الاجنبي انطلاقا إلى اللغة التي لا يعرف بأي واحدة نطق أولا العربية أم الانجليزية، إلى اختلاف المواطن وتعددها، والغربة والمنفى والهوية التي لم يكن قد كونها بعد.
“والهويَّةُ؟ قُلْتُ
فقال: دفاعٌ عن الذات
إنَّ الهوية بنتُ الولادة لكنها
في النهاية إبداعُ صاحبها لا وراثة ماضٍ.
أنا المتعدِّدَ في داخلي خارجي المتجدِّدُ
لكنني أنتمي لسؤال الضحية
لو لم أكن من هناك لدرَّبْتُ قلبي على أن
يُرَبي هناك غزال الكِنَايةِ
فاحمل بلادك أنّى ذهبتَ
وكُنْ نرجسيّاً إذا لزم الأمرُ.” [طباق]
إلى أن أتت السنة التي حولت العالم وتحول إدوارد بالتبعية، بدأ وهو الأستاذ بجامعة كولومبيا يبحث عن هويته واتجاهه وأصله، وبرؤيته النقدية بدأ يرى الشرق من منظور الغرب، لكنه في الأصل شرقيا، وبالرغم من تحول بعض مرجعياته إلى الغربية، وتركيزه على مستقبله كانت سنة 1967 مفترق الطرق، بدأ سعيد باستعادة أوصاله العربية، ويكتب عن فلسطين، خاصة أنه ثقافته لازالت تمتد للعربية، ومن هنا بدأ السطر الجديد في الهوية والاستشراق وتأثير إدوارد على فلسطين.
كان العالم وأعتقد أنه لا يزال يرى العالم العربي بالصورة القديمة، ففي مقولة أحدهم “إن مصر هو ما تعرفه بريطانيا عن مصر”، يرى العرب والشرق الأوسط عبارة عن خيام وجمال وجهل، أمراض وتصنيف متدنٍ من بني البشر، أغبياء هم هؤلاء ويستحقون الشفقة والتحدث على لسانهم لأنهم لا يقدرون، لم يكن بداعي الانسانية بل بداعي الامبريالية، أحداث تغطي على أشياء، وأشياء تغطي على أحداث، جعلت من الدول الاستعمارية هاجسا يجول في كل البلاد ما عدا أوربا.
هكذا رأى ادوارد في كتابه الاستشراق حيث قال عن كتابه:
“هذا الكتاب نمى بطرق لم أشهد مثيلا لها ثم وعلى نحو مفاجىء أصبح هذا الكتاب شيئا اكبر، أصبح التاريخ الكامل لتمثيل الآخر أعتقد أنه احد أوائل الكتب التي حاولت القيام بذلك لم يكن الكتاب مجرد عمل فكري بل حَوى كذلك الاكليشيهات التي تبعتها الدول الاستعمارية لفرض هيمنتها على المستعمرات.”
يعتبر كتاب “الاستشراق” الانطلاقة لحركة ما بعد الاستعمارية -Postcolonialism- ، والذي حمل توضيحا للأفكار الامبريالية، وتلك الرؤية العنصرية التي رأت بها الدول الاستعمارية مستعمراتها، هو كتاب حمل تأثيرا عظيما وعميقا، لهوية الشرق الأوسط، وتأثير على نظرية الغرب للشرق.
الحنين إلى الوطن الذي تجمع برأس الأستاذ الأكاديمي جعل منه محاربا شديدا لدعاوي الاستشراق والامبريالية وسار على درب التحرر، ما بعد 67، وتوسعت كتاباته فكتب “المسألة الفلسطينية” و “تغطية الإنسان”، وكان عضوا مستقلا في المجلس الوطني الفلسطيني في الفترة ما بين 1977 و1991، وكان من توجهاته حل الدولتين، كان دوما يميل للوصول إلى فئات الشعب وليس الفئة الحاكمة، فهم أصحاب الحق الأصيل، حتى أنه اختلف مع الرئيس السابق ياسر عرفات، وقالت عنه أسرته أنه بعد اتفاقية “أوسلو” قد استشاط غضبا، حيث أن عرفات قد فرط في حق عودة اللاجئين الى أراضيهم، ولم تحد الاتفاقية من الاستيطان اليهودي على اراضي فلسطين.
وفي كتابه المسألة الفلسطينية شرح القضية من المنظور الفلسطيني، مبتدأ من بداية الحركات الصهيونية وارتحال اليهود إلى الأراضي المقدسة، مستندا على حقيقة الأرض التاريخية، فالشعب الفلسطيني هو الشعب المقيم على أرض فلسطين والذي هُجّرَ منها وإلى الآن لا يُعترف بمشروعيته في أرضه، وتاريخه ماهو إلا جزء من تاريخ الشعوب المهجّرة من أراضيها، ويقدم الوثائق التي تنقض الدعاية الصهيونية بعدم وجود شعب في فلسطين،
موضحا طرق الامبريالية لتقنيين مستعمراتها وزعم بناءها على أسس حضارية.
أما في كتابه “تغطية الإسلام” فقد سلط الضوء على الإسلام كجزء من الشرق وتوضيح ماهية الإسلام وكينونته الحقيقية التى عمد الغرب تشويهها، عن طريق التغطية الإعلامية للبلاد المسلمة وكذلك التغطية التاريخية حيث قال سعيد: “يمكن القول بأن العالم الإسلامي أصبح يعلم عن ذاته ويتعرف عليها عبر صور وتواريخ ومعلومات مصنعة في الغرب”، فكان “تغطية الإسلام” لإدوارد طريقا جديدا لرؤية الإسلام من الغرب.
وفي 2003 بعد غزو العراق وهو موجود بأمريكا كان أقوى صوت للمعارضة العربية بوجه عام ضد أمريكا وسياساتها الامبريالية أيضا حيث قال:
“اعتقادي الراسخ -على الرغم من عدم وجود أي دليلٍ بالمعنى التقليدي للكلمة- بأنهم يريدون تغيير الشرق الأوسط برمته والعالم العربي. ربما يتم تقسيم بعض الدول وتدمير ما يسمى مجموعات الإرهاب وتنصيب أنظمة صديقة للولايات المتحدة. لكنني أعتقد أن هذا الحلم لايوجد له سوى أساساتٍ قليلةٍ على أرض الواقع، فالمعلومات التي يملكونها عن الشرق الأوسط والتي حصلوا عليها من قِبل من نصحوهم يمكن القول عنها إنها خارج التاريخ ومتضاربة بشكلل كبير.”
فحتى أواخر أيامه كان صامدا ضدهم، ولا داعي للاستفاضة في كم التهديدات التي نالته وباب حجرته -بجامعة كولومبيا- الثقيل، والجماعات المتطرفة اليهودية الصهيونية التي حاولت النيل منه كثيرا، ف كان يكفي أن يذكر اسم إدوارد سعيد لترتعد فرائس الاسرائيلين، كان يمثل كل شيء نقيض للفكر الصهيوني.
المنفى
حالة من العذاب الممتع، المنفى بكلمات الشاعر الأمريكي “والاس ستيفنز”
“هو ذهنية الشتاء حيث تكون عواطف الصيف والخريف مثل العواطف الكامنة للربيع قريبة ولكنها ليست في المنال..
المنفى هوّةٌ قصرية لا تنجسر بين الكائن البشري وموطنه الاصلي وبين النفس ووطنها الحقيقي ولا يمكن التغلب على الحزن الناجم من هذا الانفطام وأيا كانت إنجازات المنفي فهي خاضعة على الدوام لإحساس الفقد”.
لطالما شعر إدوارد بوجوده في المنفى، بوجوده خارج المكان، بوجوده في مكان لا ينتمي له، شعور المنفى قاس لا شك، عندما زار إدوارد حارة الطالبية بعد أكثر من 50 سنة، لم يدخل بيته، ولم يتذكر ذكرياته، لم يجد حلمه الطفولي ولا مكانه، إدوارد دوما خارج المكان
فيقول درويش في [طباق]
ألم تتسلّلْ إلى أمس, حين ذهبتَ
إلى البيت بيتك، في حارة الطالبيّة؟
– هَيَّأتُ نفسي لأن أَتمدَّد في
تخت أُمي، كما يفعل الطفل حين يخاف
أَباه. وحاولت أن أستعيد ولادة
نفسي, وأَن أَتتبَّع درب الحليب
على سطح بيتي القديم، وحاولتُ أن
أتحسِّس جلدَ الغياب ورائحةَ الصيف
من ياسمين الحديقة. لكن وحش الحقيقة
أَبعدني عن حنين تلفَّتَ كاللص خلفي
وهل خفت؟ ماذا أخافك؟
– لا أستطيع لقاء الخسارة وجهاً
لوجه وقفت على الباب كالمتسوّل.
هل أطلب الإذن من غرباء ينامون فوق
سريري أنا… بزيارة نفسي لخمس دقائق؟
هل أَنحني باحترام لُسكان حلمي الطفوليِّ؟
هل يسألون : مَنِ الزائرُ الأجنبيُّ
الفضوليُّ؟ هل أستطيع الكلام عن
السلم والحرب بين الضحايا وبين ضحايا
الضحايا، بلا جملة اعتراضيّةٍ؟ هل
يقولون لي: لا مكان لحلمين في
مَخْدَع واحدٍ؟.
“حين باشرت هذا العلاج في آذار 1994 أدركت أنني دخلت إن لم تكن المرحلة الختامية من حياتي فعلى الأقل المرحلة التي لا عودة عنها لحياتي السابقة مثلي مثل آدم وحواء عندما غادرا الجنة”
تلك كانت كلمات كتبها إدوارد في كتابه ومذكراته “خارج المكان” عن مرضه ب “الليوكيميا” هذا المرض اللعين، الذي دفع إدوارد للكتابة وذكر خصوصيات طفولته، تلك الذكريات التي ساعدته لي رحلة مرضه وعلاجه وباقي حياته، استند عليها وعلى هويته، أراد الوصول إلى جوهر ما داخل روحه يناديه كي يستفيق من نوبات المرض، إدوارد الصوت بدأ يخفت، بدأت تتلاشى الأسباب، بدأ الألم يزول وفي سبتمبر من 2003 ودعنا إدوارد سعيد، لكن الأثر باقٍ، وسيبقى، سيبقى..
“نسرٌ يودِّع قمَّتَهُ عالياً
عالياً،
فالإقامة فوق الأولمب
وفوق القِمَمْ
قد تثير السَّأمْ
وداعاً،
وداعاً لشعر الألم!”