محمد حسين هيكل الرجل الذي واجه نبي الوطنية

مرت على مصر العديد من الأوقات الصعبة؛ ولكنها دائمًا تستطيع أن تُكمل طريقها في إثبات قدرتها على إخراج أجيال تُرسّخ مبادئ النضال والديمقراطية والعمل من أجل قضية الوطن.

وفي وقت كان الإحتلال البريطاني يسيطر على مصر ظهر محمد حسين هيكل، وهو كأغلب زعماء جيله يشبه المنشور الهندسي متعدد الاتجاهات وكثير الأوجه، وهنا نقصد تعدد المجالات التي كان يبرُز فيها فهو صحافي، وسياسي، وأديب، وناقد، ومؤرخ.

“لقد كان هيكل من أصحاب الجوانب المتعددة في شتى هذه الميادين..
كان صحفيا ومؤلفا في التاريخ والسير، كاتبا قصصيا وناقدا أدبيا، وعضوا عاملا في أسرة القانون وأسرة المجالس النيابية، ولم يكن في جانب من هذه الجوانب مصليا في المضمار، كما يقول العرب في اصطلاحهم المأثور، بل كان في طليعة الصفوف لا يتخلف عن سواه شوطا إلا سبقه في شوط آخر”

عباس محمود العقاد بعد وفاة محمد حسين هيكل في جريدة أخبار اليوم 22 ديسمبر 1956

68 عامًا حافلين بالأحداث!
ولد محمد حسين هيكل في أغسطس عام 1888 بقرية كفر غنام مركز السنبلاوين محافظة الدقهلية، وتوفي في ديسمبر 1956 وفي 68 عاما عاشهم هيكل كانت حياته حافلة بالأحداث..
تخرّج من مدرسة الحقوق بالقاهرة عام 1909 وسافر بعدها على نفقة أسرته إلي باريس وحصل على الدكتوراه من هناك، وكان موضوع رسالته (دين مصر العام).

كتب في جريدة الجريدة مع أحمد لطفي السيد، والذي كان صديقا مقربا لعائلته، دعمه في قرار دراسة الحقوق بدلًا من الطب الذي كان يرى والده أنها الأنسب له، وأيضًا السفر إلى باريس لنيل درجة الدكتوراه، وكان أحد المؤثرين في أفكاره، ويعد هيكل من أنبه تلامذة لطفي السيد.
بعد إنشاء حزب الأحرار الدستوريين عام 1922 أصبح هيكل رئيسًا لتحرير جريدة السياسة، ثم جريدة السياسة الأسبوعية، وهي الناطقة باسم الحزب، واستمر فيها إلى أن توقفت عام 1949 بعد إصدار حوالي 624 عدد منها.

تزيد مؤلفات محمد حسين هيكل عن 20 مُؤَلف يتنوع بين التاريخ الإسلامي والمشاهدات والقصص الأدبية والنقد والتحليلات السياسية.
وتم تعيينه أكثر من مرة وزيرًا للمعارف، كما عُيّن في مجلس الشيوخ أكثر من مرة أيضًا حتى أصبح رئيسًا للمجلس من 1945 حتى 1950، وأناب عن مصر أمام الأمم المتحدة في أكثر من محفل.

زينب

تُعد رواية زينب أول قصة مصرية، كتبها مصري بلغة مصرية، وأفكار مصرية وطباع مصرية – حسب وصف د.عبد اللطيف حمزة أستاذ الصحافة بجامعة القاهرة.
ومن المفارقات أن هيكل كتب روايته زينب -والتي تصور الريف المصري وتفاصيله- في إجازات نهاية الأسبوع والذي كان يقضيها في الريف الفرنسي أثناء وجوده في باريس لنيل درجة الدكتوراه.

ونُشرت الرواية تباعًا في جريدة الجريدة ولكن بتوقيع هيكل باسم مستعار وهو مصري فلاح، قبل أن ينشرها كاملة وبدأ هيكل حياته ككاتب قصة وختمها ايضًا ككاتب قصة؛ فكانت رواية زينب أول كتبه وهكذا خلقت آخرها.

تحولت رواية زينب إلى فيلم عام 1928.

معارضة نبي الوطنية

بعد ثورة 1919 وتغيير سياسة الأحتلال البريطاني تجاه مصر وإصدار تصريح 28 فبراير 1922 من قبل الإنجليز والذي كان يقر باستقلال مصر مع وجود أربع تحفظات وهم:

  • الدفاع عن مصر
  • حماية الأجانب
  • حماية الأقليات
  • مسألة السودان وفصلها عن مصر

ومن أجل هذه التحفظات والمفاوضات ظهر الخلاف بين السعديين والعدليين -أي اتباع سعد زغلول واتباع عدلي يكن- خلافا من أجل الوطن.

أسس عدلي يكن حزب الأحرار الدستوريين ليكون من أشد المعارضين لحزب الوفد وزعيمه سعد زغلول.

وهاجم محمد حسين هيكل في مجموعة مقالات بجريدة السياسة الأسبوعية -الناطقة باسم الأحرار الدستوريين- سعد زغلول وحزب الوفد، ومن ضمن هذه المقالات مقال بعنوان “سر هذه الخصومة” بتاريخ 1 أكتوبر 1923 يقول فيه:

“…لكن لماذا يبغض سعد الأحرار الدستوريين كل هذا البغض؟ ولماذا يفني في الحملة عليهم كل جهوده اليومية ويكد شيخوخته في الكيد لهم بكل سلاح غير شريف! الجواب سهل: إن سعد بطبيعته رجل مفتون بالسلطان والنفوذ وحب السيطرة. فلما مكنته الظروف من ذلك في صدر الحركة أولع به وازداد افتنانا بالأثرة والسلطان. فعدوه اللدود إذن ليس من يفرط في حقوق الوطن من أشباه نسيم، وإنما عدوه اللدود من يعارض له رأيا أو يلقي عليه سؤالا أو يرفع في وجهه صوتا مهما يكن حقا ومهما يكن واجبا”

ومقال آخر بعنوان “احتقار” بتاريخ 4 أكتوبر 1923 بعد أن اتهم سعد زغلول أعضاء حزب الأحرار الدستوريين بالخيانة يقول

“…كلمة تعمد سعد باشا أن يلقيها في غير تحديد ولا توضيح، فهي تدل على كل شيء وتشمل كل شيء. ومثلها كلمة الخيانة. بل كلمة الخيانة أوضح وأشد تحديدا، فالخيانة في رأي سعد هي مخالفة سعد، أيلقي سعد هذه الألفاظ مستجمعا حين يلقيها بين القسوة الشديدة جدًا والضعف الشديد جدًا، يبيح كل شيء ولا يبيح شيئا. يحظر كل شيء ولا يحظر الحامية”.

ثم يبدأ بعدها مقالات حزب الستمائة، والتي قام سعد بعدها برفع دعوة قضائية ضد هيكل ولكن المحكمة برأت هيكل.
تكمن الصعوبة في الصدام مع سعد زغلول كونه يعد نبي الوطنية وقتها حتى بعد دخوله معمعة رئاسة الوزارة والانتخابات، وعلى الرغم من كثرة الكُتّاب والصحف المؤيدة له ولحزب الوفد إلا أن هيكل كان شديد الإيمان بمبادئ حزبه، وبالحرية وبالديموقراطية، وبحق مصر في حياة دستورية سليمة بعيدًا عن الاحتلال ودسائس القصر، وكان يرد على المهاجمين بالمنطق القوي وبالحجج الدامغة ولم يخطىء في حق أحد، بل كان يرى أن الخصومة السياسية ليست سوى اصطدام بين الخطط والأفكار حول الأصلح للبلاد، وليست لتكوين عداوات شخصية فنال تقدير خصومه رغم الصراعات السياسية الحامية.


“ليس من الثناء على هيكل في شيء أن نقول إنه كاتب مجيد، فالناس جميعا يعلمون أنه كاتب مجيد، وما أظن أن بين قراء الصحف من يستطيع أن ينكر أنه مدين لقلم هيكل بساعات لذيذة تأثرت فيها نفسه ألوانا من التأثر، فغضبت مع الكاتب للحق، وسخطت مع الكاتب على الباطل، وشعرت مع الكاتب بالوطنية الصادقة والحرص على المنفعة القومية، واستمتعت مع الكاتب بلذة العلم والأدب حين يبحث عن العلم والأدب وحين يتناول بتحليله الدقيق ونقده الموفق كبار الكتاب والأدباء”
طه حسين متحدثًا عن محمد حسين