أنا الحريةُ والهويّة .. كيف بي مَنسيّة؟!

Comments 0

لسانُ آدم، لغة القرآن، لغة الضاد، جداريات قُريش، أم شخص يعرب بن كنعان؟

لا يمكننا تحديد منبع انفراط عذب اللغة العربية لتروي عطش اللغات التي سبقتها بالتحديد، فحتى الآن يختلف المؤرخون والعلماء في نشأتها أو أول مَن تحدث بها، فمنهم مَن قال أنّ آدم عليه السلام أول مَن نطق بها منذ بدأ الخليقة، وجرت الألسنة أن الشعراء كانوا يأتون من شبه الجزيرة العربية إلى مكة لوضع أشعارهم العربيّة في صورة معلقات على جدار الكعبة للمباراة والتقييم، ثمّ اتجهت الأقاويل إلى أنها لم تكن كائنة سوى بوجود القرآن الكريم ونزوله، والرأي الأخير أنها نسبة ل يعرب بن كنعان والتي فندها المؤرخون بقولهم أن جنوب الجزيرة حيث يقطن يعرب كانت تتحدث لغة أخرى بعيدة كل البعد عن اللغة العربية، اختلفت الأقاويل على المصدر ولكنها اجتمعت على الحلى والغنى والفصحى التي تنضح من جوانبها كما العسل من شمع الخلية!

إنّ أكثر ما حفظ للغة العربية مكانتها هو نزول القرآن بحروفها ” إنا أنزلناه قرآناً عربياً “، فظلّت سالمة دونما عطب، غير محرّفةٍ ولا مشوبة، لغة مثاليّة لا يتعسر فهمها، أفصح اللغات وأكثرها نقاوة وبياناً فقال فيها المتنبي :” بها الفن تجلى ● وبها العلم تباهى “.

بدأ ازدهار العربية بعد نزول القرآن الكريم، فزادها حسناً ووسعته هي شمولاً ووصفاً، قال المستشرق المجري عبد الكريم جرمانوس: ” إنَّ في الإسلام سنداً هامّاً للغة العربية أبقى على روعتها وخلودها فلم تنل منها الأجيال المتعاقبة على نقيض ما حدث للغات القديمة المماثلة، كاللاتينية حيث انزوت تماماً بين جدران المعابد. ولقد كان للإسلام قوة تحويل جارفة أثرت في الشعوب التي اعتنقته حديثاً ، وكان لأسلوب القرآن الكريم أثر عميق في خيال هذه الشعوب فاقتبست آلافاً من الكلمات العربية ازدانت بها لغاتها الأصلية فازدادت قوةً ونماءً. ويقول أحمد شوقي أيضاً في هذا الموضع :” وسعت كتاب الله لفظاً وغاية ● وما ضقت عن آي به وعظاتِ “. وبعد انتشار الإسلام في شبه الجزيرة العربية تغلبت لغة القرآن على ما سواها، فتوحدت لغة أهل الجزيرة وتعلمها مَن دخلوا الإسلام من خارج الجزيرة من السريان والأقباط والروم والأمازيغ والآشوريين؛ لأنها مصدر التشريع في الدين الإسلامي ( القرآن، الأحاديث النبوية )؛ ولأن الصلاة وبعض العبادات الأخرى لا تتم إلا باتقان بعض كلمات اللغة العربية، واتسعت الدولة الإسلامية فصارت اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد والفتوحات وفي كافة المجالات سواء السياسية أو الإدارة والحساب وغيرهم، وبدأت اللغات الأخرى تأخذ منها وينقل الداخلين حديثاً إلى الإسلام اللغة إلى بلادهم، فنجد الكثير من اللغات الآن تنضح بالكلمات العربية، يقول دكتور مصطفى محمود في كتابه علم الأسرار:” ومن الطبيعي أن يأخذ الفقير من الغني وليس العكس، ومن الطبيعي أن تأخذ اللاتينية والساكسونية والأوروبية واليونانية من العربية، وأن تكون العربية هي الأصل الأول لجميع اللغات، وأن تكون هي التي أوحيت بقواعدها وتفعيلاتها وكلماتها إلى آدم كما قال القرآن: {وعلم آدم الأسماء كلها}.

هذا كان فضل القرآن على اللغة العربية، أما عن فضل اللغة على نفسها فقد جاء تميزها مكملاً جوانبه غير منقوص، حيث تحوي أصوات ليست موجودة في أي من اللغات السامية الأخرى، بل فقدتها اللغات الأخرى تباعاً مثل حروف ( غ، ح، خ، ض، ظ، ث، ذ )، إضافة إلى وجود نظام الإعراب والجموع، وإضافة الضمائر إلى الأفعال والأسماء، كما أنها غنية في الاشتقاق، ومميزة بذاتية الحرف وفرديّته، حيث يمكن لحرف واحد أن يمثل فعل والفعل في اللغة جملة لها فاعلها، وهناك معجم العربية الفصحى والذي يعتبر ثروة لفظية ضخمة لا يعادلها أي معجم سامي آخر، وهناك المعاجم الحديثة التي لا زالت مستعملة إلى الآن وكان لأمير الشعراء أحمد شوقي الفضل في إنشائها ومعه جبران خليل جبران والشيخ ناصيف اليازجي وأمين الريحاني وغيرهم، وفي معجم بن منظور( لسان العرب ) الذي تم تأليفه في القرن الثالث عشر للميلاد ما يزيد عن ثمانين ألف مادة من مواد اللغة العربية مما يوحي بغزارة المادة اللغوية لها، يمدحها أمير الشعراء أحمد شوقي في بيت شعره قائلاً :” إنّ الذي ملأ اللغات محاسناً ● جعل الجمال وسرّه في الضاد “.

وكما هي العادة، عادة الأشياء والأشخاص والأماكن والكون نفسه، فلا شيء يبقى على حاله كذلك كانت اللغة ومصابها؛ فقد بدأت تتداخل معها لغات أخرى خلال العصرين الأموي والعباسي والعهد الصليبي تبعهما ركود اللغة وتراجعها بسبب حملات المغول بقيادة هولاكو التي قامت بتدمير كل معالم الثقافة والحضارة، وأخذت اللغة في الانحسار، وبحلول القرن السادس عشر تحولت اللغة العربية إلى لغة الدين الإسلامي فقط، وقلّت أهميتها بالنسبة للعلوم والآداب، وسيطر هذا التنويم على عيون العرب تجاه البرّ بأمهم ولغتهم الأولى قرابة 400 عام حتى قررت النهضة الثقافية في بلاد الشام ومصر في نهاية القرن التاسع عشر أن تكون هي الابنة البارة التي تعطي اللغة شربة ماء بعد سنين عجاف، فظهرت جمعيات أدبية وأدباء وشعراء على رأسهم أحمد شوقي الذي كتب هو وشعراء عصره قصائد عبرت في مضمونها عن حزن اللغة على حالها وما وصلت إليه، وبدأوا يرثونها وكأنها منكوبة!، من أشهرها قصيدة حافظ إبراهيم بعنوان ( اللغة العربية تنعي حظها ) والتي جاء فيها قوله :” رَمَوني   بِعُقمٍ   في   الشَبابِ   وَلَيتَني ● عَقِمتُ   فَلَم   أَجزَع   لِقَولِ  عُداتي “.

وها نحن ذا نُشرف على منتصف القرن الحادي والعشرين وقد اندثرت كل ملامح اللغة وتبرأ من الأم أبناءها، طردوها شر طردة واستعاضوا عنها باللغات الأجنبية المواتية للعصر، ولم تتوان الرأسمالية عن دورها في اعوجاج ألسنة العرب نحو لغات البلاد التي تدر عليهم أموالاً طائلة، ف واقع اللغة في العالم العربي اليوم ماهو إلا مرآة تعكس بجلاء واقع المجتمعات العربية، حيث فقر في كل المستويات تبعه فقر اللغة واختلاطها بغيرها حتى لم تعد تظهر معالمها من أكوام الرمال التي حملتها رياح الغرب منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن!، وصف حافظ إبراهيم هذا في قصيدته قائلاً على لسان اللغة العربية :” أَرى لِرِجالِ الغَرْبِ عِزّاً وَمَنعَةً ● وَكَم عَزَّ أَقوامٌ بِعِزِّ لُغات “

إننا إن نظرنا حولنا ببساطة سنرى أن اللغات الأخرى قد احتلت المكان دون مجهود، سواء أسماء المحلات التجارية، البرامج التلفزيونية، مواقع التواصل الاجتماعي، حتى المناهج التربوية منذ الصفوف الأولى إلى المراحل الجامعية المتقدمة، الأمر كليّة ما هو إلا اندساس اللغات الأخرى دون شعور منا داخل منازلنا ورسائلنا وكتبنا، وعلى رأسهم هويّتنا! بيد أننا نسينا قول عمربن الخطاب رضي الله عنه:” تعلَّموا العربيّة فإنّها من دينكم ”

المجتمع العربي اليوم ينسلخ من لغته دون أن يدري، وهو في الحين نفسه ينزع نفسه منها فلطالما كانت اللغة هي التعبير الأوحد عن الوطن والحريّة؛ يقول الرافعي :” ما ذلّت لغة شعبٍ إلا ذل، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار”، فنرى أبناء اللغة العربية اليوم إما يتحدثون العامية والتي تقضي على قواعد اللغة وتقصي مفرداتها وتقلب حروفها دون رحمة، أو يتواصلون باللغات الأجنبية كنوع من الرقي والحضارة باستخدام لغة العصر، وبعض الشباب الذين لا يجيدون اللغة الانجليزية يعمدون إلى كتابة اللغة العربية بالأحرف اللاتينية، ولجأوا إلى استخدام بعض الأرقام للدلالة على الأحرف العربية التي لا وجود لها في اللغة الإنجليزية، هذه اللغة الجديدة معروفة في جلساتهم باسم ( الفرانكو )، هذا لا يمكن تسميته إلا ” اعتداء على اللغة العربية وعقوق لشخصها “!

إن اللغة العربية تصرخ حتى انقطع صوتها ولم تجد لنفسها من سبيل تسلكه يفضي إلى النور والتجلي من جديد، هجرها أصحابها دون أن يدروا أنهم يتخلون عن أنفسهم قبلها، لو انتبهنا قليلاً لاستوعبنا حقيقة الأمر، ولفهمنا جمل نزار قباني التي قالها منذ أعوام مضت: ” اللغة العربية تضايقهم لأنهم لا يستطيعون قراءتها، والعبارة العربية تزعجهم لأنهم لا يستطيعون تركيبها، وهم مقتنعون أن كل العصور التي سبقتهم هي عصور انحطاط، وأنَّ كل ما كتبه العرب من شعر منذ الشنفرى حتى اليوم هو شعر رديء ومنحط، تسأل الواحد منهم عن المتنبي، فينظر إليكَ باشمئزاز كأنك تحدثه عن الزائدة الدودية، وحين تسأله عن (الأغاني) و (العقد الفريد) و (البيان والتبيين) و (نهج البلاغة) و (طوق الحمامة) يرد عليك بأنه لا يشتري اسطوانات عربية ولا يحضر أفلاماً عربية، إنهم يريدون أن يفتحوا العالم وهم عاجزون عن فتح كتاب، ويريدون أن يخوضوا البحر وهم يتزحلقون بقطرة ماء، ويبشرون بثورة ثقافية تحرق الأخضر واليابس، وثقافتهم لا تتجاوز باب المقهى الذي يجلسون فيه، وعناوين الكتب المترجمة التي سمعوا عنها! “، ليست العربية تدري متى يعود الأبناء إلى أحضان أمهم، ولا متى يأوي المغترب إلى وطنه، هي تعلمُ جيداً أن الوطن العربي يعاني، يعاني من كساد كساه حتى أعتم سماه، فقط لا زال هناك أنين مكتوم ينادي من داخلها أملاً في النجدة : أين أنتم يا غَيارى؟