في حضرة الذكرى | كيف كان مولده رحمةً للعالمين؟
ربما كان الأمر حكمةً من الله عز وجل!
فقد أصبحنا في عصر تَظهر فيه مع كُل إشراقة شمسٍ جديدة تكنولوچيا حديثة، أو تيار جديد في الصحافة أو الفن، أو في أي تيار من تيارات الحياة بشكلٍ عام. حياة لا تتوقف عن التجدد وعقل لا يكف عن تمهيد الطرق لإنقاذ البشرية وإفادتها، يظل يبهرنا بما نحتاج حينًا ويخجلنا بما يتلف النفس والبيئة حينًا. بتنا ننتظر الجديد قبل كل طلعة شمس “كيف سيكون الإصدار الأحدث من هذه الفئة؟!” ، “وما التيار القادم في الثقافة؟!” ، “هل ستكون الصيحة القادمة مناسبة أم سنكتفي بالنظر إليها؟!”.
إنه مجتمع لا يكف عن التحرر من ذاته، والبحث عن راحته وسعادته والنهوض ببعضه البعض. لكن لو توقفنا في سباق الحياة لنطرح سؤالًا ونسأل ذواتنا:
“هل باستطاعتنا أن نوقف هذا السباق أو نهرب منه؟!”
سنجد أن الإجابة قاطعة بالنفي “بالطبع لا”، إننا لا نملك إلا أن نخوض هذا السباق بما وهبنا الله من عقل وقدرة علىٰ التفكير فيما قد ينفع أو يضُر.
هذه هي الحياة علىٰ مر عصورها واختلافها، كانت وستكون نهرًا لا يستطيع إيقاف ذاته إلا بأمرٍ من الله، ومن هُنا كانت حكمته سبحانه وتعالي بأن يبعث نبيه “مُحمدًا” بدينه الجديد ليغير مسار البشرية جمعاء بعدما كانت في طريقٍ تقود به نفسها نحو الهاوية.
فما من أحدٍ منا لا يعرف كيف كان المجتمع في شبه الجزيرة العربية قبل ظهور النبي (صلىٰ الله عليه وسلم)، وكيف كان الآباء يُسود وجوههم جهلًا عندما يُرزقن بالإناث ويدفنهن أحياء، والطريقة المهينة التي كانت تُعامل بها المرأة، والأسواق التي لم تكن تخلو من سوق الرق والعبيد. كأنه كان ليلًا طويلًا تُرتكب تحت ستائره كل الجرائم المُشينة من ظُلم لرقٍ لذهاب للعقل دون مبالاة، فأراد الله له خلاصًا باصطفاء نبيه “مُحمد”.
ولم يكن اختيار الله لمُحمد إلا تنزيهًا للخُلق ولقيمة الإنسانية فوق أي شيءٍ آخر، فاختاره فقيرًا لم يكن يجد من يُرضعه.. يتيمًا دون اهتمام أو حب أبويّ.. وأُميًّا لم يحصّل التعليم أو الدرس. لكنّه فضله فوق جميع مخلوقاته لما كان عليه من هذه الأسباب، وليكون قدوة لأمته وجميع الخلق.
اشتغل (صلىٰ الله عليه وسلم) برعي الغنم، وشغل نفسه بالعُزلة والخلق الحميد عن مجالسة أقرانه من قومه، فكان أهلًا لما كلفه الله به. حتىٰ إن إحداهُن من النساء هامت بوصفه يوماً قائلة “من شافه هابه، ومن خالطه أحبه”.
لم يحبه من عارضوا حملِه للإسلام، لكنّ هذا الكُره لم يكن ابتلاء من الله أو ضياع عقل كما وصفه أهله وأقاربه، إنما إحدىٰ الخلائق التي اتصف بها آل المجتمع في ذلك الوقت، والتي لم يملك أمامها إلا الصبر والدعوة بإحسان.
رسالة كلّفه الله بها.. ومُجتمع غارق في معاصيه وفي شهوانياته العمياء.. وبشرٌ هو أضعف آل قومه مكانة وأفضلهم لنفوسهم حديثًا وخُلقًا ومعاملة.. وصبرًا لم يقل مهما بلغ الأذى!
هكذا كان النبي (صلىٰ الله عليه وسلم)، وهكذا كانت حياته إلىٰ أن كتب الله له نشر الدعوة وإعلان المُسلمين إسلامهم وأداء طقوس دينهم جهرًا دون خوف من قتل أو تعذيب.
لقد كان هذا الناموس الكوني الذي خلق الله دنيانا عليه، وقد كان هذا “مُحمدًا”، وإن قصة “محمد” مع دينه الإسلام بتجريدها من فئة القدسية التي لا يُقدسها إلا فئة بعينها من أهل الديانة، لقصة رجل عظيم سيتعلم من صاحبها كُل من يقرؤها من آل البشرية جمعاء والديانات كُلها. وإننا في كل مرة سنحتفي فيها بذكرىٰ مولده، ونستذكر بعضًا من مشاعر ليست بشيء في حياة رجل اصطُفي وحيدًا وسط مجتمع غارق في ضياعه ويموت تاركًا خلفه حضارة إسلامية، سنستذكر معنىٰ الحب وإنكار الذات والتضحية والصبر الجميل والإحسان. وسنأمل عندئذٍ أن تكرمنا الحياة مرتين: مرة نقُم بها بديننا، ومرة نسعىٰ فيها جهدنا لنمتثل بالخلق الخالد لـ “مُحمد”.