أحقًا القراءة تقتل الوقت؟
يقولون إن القراءة تقتل الوقت إيمانًا منهم بدور القراءة في أوقات فراغهم فقط؛ وفي الحقيقة إن هذا الاعتقاد عار من الصحة تمامًا، وأتى من اللامنطق عند البعض، فعار علينا ألا نكون واعين بدور القراءة في أوقاتنا كافة، لا أوقات فراغنا خاصة.. فمن واقع تجارب كثيرة للأشخاص الذين يحبون القراءة وتحبهم -وقد أعتبر نفسي واحد من هؤلاء- أن القراءة تحيي الوقت، بل إنها تعيده إلى الحياة عن ذي قبل، فهي شيء مقدس بالنسبة لجموع القراء، لها طقوس ولها روحانيات.
يقع البعض في خطأ جسيم بالقول والفعل، بأن القراءة تقتل الوقت! والحقيقة أن القراءة تعتبر شيء أساسي من حياتنا اليومية مثلها مثل الهواء.. مثل الماء.. مثل الطعام، فلا بد لك أن تقرأ كي تحيا، ولا بد أن تعرف أكثر من أجل أن تعيش غدًا أفضل؛ فالقراءة ليست للتسلية ولا لمضيعة الوقت، ولكنها شيء ضروري وحتمي في الحياة اليومية لكل شخص يتطلع إلى مستقبل واسع الأفق.
أذكر عندما كنت في المرحلة الابتدائية ومعلمة الصف تحثنا على القراءة، وتحثنا على زيارة المكتبة بعد انتهاء الحصص، وأذكر أيضًا المهرجان الصيفي للقراءة الذي كان يعقد كل صيف، وأن مكتبة مدرستنا الابتدائية كانت تفتح أبوابها في المساء كي نقرأ، كنت أذهب فرحًا أنا وبعض الزملاء كي نكتشف ما فوق الأرفف وما بين ثنايا الكتب.. كان أمين المكتبة يدفعنا على مراجعة الكتب التي نقرأها كخلق روح من المنافسة بيننا، حين كنت انتهي من قراءة كتاب أو قصة أقوم بكل حماس وأشرح لجميع الحضور مغزاه، كان هذا الشيء أشبه بالندوة الثقافية للأطفال، ولكنه بقي الشيء المفرح بالنسبة لي حين تذكره الآن.
لن أنسى أيضًا دور والدي، فور رجوعه من العمل كان يجلب معه الصحف والجرائد، كنت حريص على استقباله كل مرة وأفتح له باب الجراج وأنتظر خروجه من السيارة وكلي لهفة لما بين يديه من وريقات تجعلني سعيد جدًا، كنا نتشارك أنا وهو حل الكلمات المتقاطعة في الصفحة الأخيرة، وكنت أنتظر أيضًا المجلة الشهرية الذي كان يجلبها معه، وبالأخص الكتاب المرفق معها، كان هذا ما جعلني شغوف بالقراءة للحد الذي أنا عليه الآن، كنت أقرأ كل ما يقع أمامي، أقوم في حصة القراءة كي أقرأ الدرس على الزملاء في الفصل، أقرأ أخبار الأدب في الجريدة، لم أكن أعي معنى كلمة أدب إلا من الجريدة التي هي بالنسبة للبعض قرصاس (فلافل) أو ربما لفافة (ساندويتشات) الصباح لطفل في المدرسة، وها قد بدأت الرحلة.
أسترق كتب أخي المترجمة خلسة، وأعيدها خلسة بعد أن أتعمق وأغوص بين ثناياها، وقد أدركت اختلاف الأساليب في التعبير والكتابة من كاتب لآخر، عربي كان أو أجنبي، عرفت العقاد والرافعي وطه حسين ونجيب محفوظ، عرفت أحمد خالد توفيق وسلسلته الرائعة ما وراء الطبيعة، عرفت أجاثا كريستي وأدب الجريمة، والفضل لمجلة ميكي وبطوط وسلسلة فلاش وغيرهم من الكنوز التي تربيت عليها وشكلت فكري ووجداني وجعلت مني ما أنا عليه الآن.
قد تتوقف للحظات في دهشة مما تقرأ، وما علاقة ما أكتب بعنوان المقالة! حقيقة أن ما تقرأ يمثل التجربة الحقيقة بأن الوقت يحيا بالقراءة، ينتعش بالكتب، يرتوى بالكلمات والسيناريوهات والتجارب التي بين الكتب الملقاة على أرفف المكتبات، فمن خلال تجربتي هذه مع القراءة أدركت بأنها هي الحياة بالنسبة لي ولمن يقدسها، قد تراني وأنا أقرأ في المواصلات، قد تراني أقرأ في مقهى وسط جموع من الناس، قد تراني أستند إلى جدار في الشارع وبين يدي كتاب أقرأ ما بين صفحاته، أقرأ قبل النوم، أقرأ في الصباح، أقرأ في المساء بصحبة قهوتي العزول، أقرأ أقرأ أقرأ لأن القراءة تعني الحياة.
فيا من تقرأ لي الآن كلي إيمان بأنك هذا القارئ، قارئ المقهى وقارى الشارع والباص والصباح والمساء، ولو لم تكن كذلك لما كلفت نفسك وفتحت مقالتي ولما شغلت بالك ووصلت إلى هذه الكلمة في السطور الأخيرة، أقول وربما قولي يُدل به وينفعكم، أقول قولي هذا وأنت القارئ الأرقى…