سر الجريمة التي طرد بسببها الشيخ إمام من قريته

اسمه إمام محمد عيسى، شهرته “الشيخ إمام”، أحد أبرز الأصوات الغنائية في مصر خلال فترة الستينات والسبعينات، استطاع أن يصنع برفقة صديقه الشاعر “أحمد فؤاد نجم” حالة غنائية مختلفة؛ فكونا معًا ثنائيًا فنيًا، فكانت الأفكار لنجم، والأداء واللحن للشيخ؛ فتميز الثنائي عن أبناء جيلهم بالأغاني ذات الطابع السياسي، والتي كانت على عداء مع نظام الحكم، خلال فترة حكم عبد الناصر، والسادات، ودخل كل منها المعتقل بسبب ذلك أكثر من مرة.

  لم تكنْ حياة الشيخ إمام سهلة أو مُيسرةً في أي مرحلة من مراحل حياتِهِ؛ فلم ينعم بطفولة سعيدة لأسبابٍ كثيرة، بدايةً من فقدِهِ لحاسة البصر، مرورًا بالمشاكل الأسرية والمادية، وصولًا إلى طرده من قريته والتسكع بشوارع مصر القديمة، ولم تقف دراما حياة الشيخ عند هذا الحد فقط، بل لعبت الصدفة دورًا كبيرًا في مجرى سير أحداث حياته.

  لدى إحدى أكثر الأسر فقرًا في قرية “أبو النمرس” التابعة لمحافظة الجيزة، ولد الشيخ إمام عام 1918، لأسرة لا يستمر عمر أطفالها كثيرًا، فقد كان إمام هو الطفل الثامن في أسرته، وقد سبقه سبعة أشقاء رحلوا جميعًا في عمر صغير، ولم يقف حال الأسرة المتعثر عند هذا الحد فقط، بل امتد به الشقاء إلى أن أصيب بمرض الرمد في عامه الأول، وانتهى به الأمر إلى أن فقد بصره، نتيجة للجهل وسوء الأحوال المادية للأسرة التي لم تقدر على علاجه، وإن كان الأجدر بأسرته أن تهتم به، فلم يأتِ إمام بسهولة، فيُحسب له أنه الطفل الذي نجا من الموت بعد سبعة أشقاء.

  قررتْ الأسرةُ الفقيرةُ ألَّا تنفق أموالها القليلة على تعليم طفلها الكفيف، واكتفى والده الشيخ “محمد أحمد عيسى” بإرسال ابنه إلى الجمعية الشرعية بـ”أبي النمرس”، ليُتمَّ حفظ القرآن الكريم على يد الشيخ عبد القادر ندا- رئيس الجمعية الشرعية- وكان الهدف من ذلك أن أصبح إمامًا قارئًا للقرآن الكريم، فكان هذا الحدث هو فاتحة الخير، وبداية رحلة الشقاء والتشرد في الوقت نفسه، فقد أتت الرياح بما لا تشتهي السفن.

  صارت الأمور مع الطفل الكفيف بعكس ما تمنى والدُهُ الذي كان قاسيًا عليه، حيث وصلتْ حالةُ بؤس الطفل إلى أن قرر الشيخ عبد القادر فصل إمام من الجمعية دون رجعة، وهذا ما أغضب والده غضبًا شديدًا لا نهاية له؛ فاضطر إلى طرده ليس من البيت فقط، ولكن من القرية بأكملها، فقد رأى كلاهما أن إمام قد أتى بجرمٍ وإثمٍ عظيم، وأنَّ ما فعله خلال الأيام الماضية كان جريمة كبرى لا توبة لها.

  كانت الجريمة التي ارتكبها الطفل والتي تسببت في كل ذلك، هي أنَّ شيخه عَلم أن إمام استمع إلى الإذاعة المصرية من خلال جهاز الراديو، لم يكن الأمر بسيطًا إلى هذه الدرجة التي يظُنُها القارئ، فقد كان ذلك الفعل محرمًا في عرف الشيخ عبد القادر- شيخ الجمعية الشرعية وصاحب السلطة الدينية في القرية- حيث كان يعتبر الإذاعة ما هي إلا بدعة، وهذا الحكم الشرعي الذي تبناه الشيخ يبدأ بسلسلة معروفة وهي كلُ بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ لا تنتهي بصاحبها إلا بالانغماس في نار جهنم، لا شك أنَّ إمام لم يرتكب ذنبًا يستحق ذلك، فلم يستمع إلى (أغاني FM على 105.8) على سبيل المثال، ما كان منه إلى أن استمع إلى صوت الشيخ محمد رفعت في تلاوة قرآنية من خلال الإذاعة، وهل يستحق صوت رفعت أن يطرد الإنسان من بيته !

  ترك الشيخ إمام قريتَهُ بعد أن منعه والده من دخول المنزل، ولم يحمل من الجمعة الشرعية والقرية غير لقب “الشيخ” الذي لازمه طوال حياته، بعد ذلك انتقل إلى العيش في حي الحسين، والأزهر الشريف، تعرَّف هناك على مجموعة من القراء والمنشدين، عمل معهم في هذا المجال وكان واحدًا منهم، بدت الأمور وكأنها ستسير وفقًا لما خطط له والده، فهذا ما تمناه .. أصبح ولده قارئًا للقرآن الكريم، ولكن تعرَّفَ الشيخ إمام على الملحن الشيخ زكريا أحمد مصادفةً، فبدأت حياته تأخد مسارًا جديدًا؛ فقرر تعلم العزف على العود وترك القراءة والإنشاد الديني، ورافق الشيخ زكريا أحمد، وقرر أن يصبح مطربًا وملحنًا، واستمر ذلك الحلم حتى صنع اسم “الشيخ إمام”.