درجة الغليان

Comments 0

إن أخطر عدو للإنسان على وجه الإطلاق هي العادة، وأخطر ما في العادة على صاحبها هي أولها، فإنها في أولها إن سهلت ساغت، وإن ساغت مالت للتكرار، وفي تكرارها يألفها القلب، وفي انتظامها ترغبها النفس، فإن رغبتها النفس تمسكت بها، و إن ألفها القلب طبعت عليه.
حتى تصير جزءا متأصلا في لا وعي الفرد تجري فيه مجرى الدم، فإن هي صارت كذلك، انتبه عنها صاحبها وبدأ في البحث عن عادة جديدة.

والعادة في أصلها تنتج عن إحتياج لم يتم إشباعه بصورة سوية، وفي هذا قد تكون العادة شكلا من أشكال الكبت، وينتشر هذا الشكل بشكل مفزع في مجتمعات الشرق، ويندر في مجتمعات الغرب، وذلك لإن الإنسان الغربي قد لا يجد أصلا ما يكبته.

منذ خطا خطوته الأولى في التحليل النفسي، كان يرى عالم النفس الأشهر سيجموند فرويد أن الكبت هو مرد جميع العقد النفسية، والإنحرافات الجنسية، وأحيانا المشكلات العصبية.
وقد لاقى هذا الرأي جدلا واسعا عند كثيرين، بقدر ما لاقى إعجابا أكثر إتساعا عند أكثر، واستغل فرويد تلك النقطة تحديدا استغلالا أكاديميا جيدا، واتخذ من الكبت حجر الأساس الذي بنى عليه نظرياته.

وكتب فرويد كثيرا في الكبت، وألف فيه، وحاضر عنه، وربط بينه وبين الأحلام والأمراض والشذوذ والصراع والصرع. وإذا كان الكبت في أصله وسيلة دفاعية مكتسبة، فهي حتما وسيلة مردها إلى ممارسات تربوية خاطئة رسخت في ذهنية الطفل في مرحلة الطفولة.

وعلى هذا أقام فرويد مدرسته، ووضع مبادئها، وأسس مناهجها، وعلى هذا نشأت مدارس أخرى، وقامت نظريات اتخذت مدرسة فرويد الأم مثالا لها في توجهها. وقد تكون وجهة نظر فرويد صحيحة، إذا ما صح إمكانية تشبيهه هو نفسه للكبت بإناء مغلق، محكم الإغلاق، مملوء بالماء، ومن تحته نار، فإذا هو لم يجد مخرجا انفجر.

وفي مجتمعات الشرق، العربية منها بشكل خاص، يكون الكبت أكثر حدة عند المرأة منه عند الرجل، وذلك لأن المجتمع بتقاليده وعاداته وآدابه وعرفه يضيق بالمرأة أكثر مما يضيق بالرجل، ويتخذ منها مثالا للعار والرغبة والشهوة والتخلف وضيق الفكر وقلة الحيلة وضعف الشخصية، ولذلك فأكثر المرضى العصبيين هم النساء، وأكثر المصابين بالهستيريا هم النساء، وأكثر المهيئين سلفا لخطر العادة هم النساء.

وفي المجتمعات نفسها، حين يبلغ الشاب السن، فإنه ينفجر.. تماما كالإناء المغلق، محكم الإغلاق. وحين يصل إلى مرحلة النضج الجنسي، التي يكون فيها قادرا على الزواج- على الأقل من الناحية الجنسية- فإنه أبدا لا يجد وسيلة للزواج، ولا يجد الماء المغلي منفسا للخروج إلى عبر الإنحراف إلى ممارسة العادة السرية. فإذا قيل له بأن هذه العادة شر وحرام، وقد تصيبه بالمرض أو الجنون، يقلع عنها، وينحرف إلى الشذوذ.

والشذوذ ليست ممارسات مادية فقط، وإنما قد تكون ممارسات معنوية، وقد يجد الشاب المغبون الذي لا يجد وسيلة للزواج، أو الذي يحيا في مجتمع لا يعترف إلا بالزواج، قد يجد نفسه يميل في التفكير في الشأن الجنسي إلى أشخاص من الجنس نفسه، وفي الغالب تبقى هذه الممارسات تدور في العقل ولا تأخذ الطابع التنفيذي، وفي حالات نادرة لا يكتفي الشاب بهذه الممارسات العقلية الحالمة ، وإنما يقضي بأن تخرج إلى النور.

فإذا قيل له بأن الشذوذ مرض أخلاقي وإجتماعي، يجرد صاحبه من عوامل الرجولة، وقد يصيبه أيضا بالسل أو الجنون، فإنه في نهاية الأمر يقلع، وفي نهاية الأمر أيضا يصاب بالجنون.

إن ظواهر الإنحراف الجنسي، كالتحرش والشذوذ والإباحية والسادية، ليست غاية في الأصل، أو هدفا في الأساس، وإنما هي صور مختلفة للغليان. ولا يوجد متحرشا أو مازوشيا بالفطرة، وإنما هي تعقيدات المجتمع الحديث، ونتائج التمدن التي سلخت الإنسان من فطرته وجردته من سواءه.

والدين الإسلامي عنى بفطرة الفرد، وانتبه إلى خطورة التعود حينما يكون شكلا للكبت الناتج عن عدم القدرة على اشباع الإحتياج لظروف خاصة، وفي حديث شريف: “يا معشر الشباب، من استطاع منكم البآئة فليتزوج”، وفي هذا محاولة لردع الممارسات الإنحرافية التي قد تنتج عن تأخر الزواج، “وإن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له جنة، أي وقاية”، وفي هذا محاولة لتهذيب النفس وتطهيرها وحمايتها من مخاطر الكبت وشرور التعود.

إن حل مشكلة الغليان هي في ألا نصل أصلا إلى مرحلة الغليان،فإذا لم يكن بأيدينا أن نحل مشكلة الزواج، فعلى الأقل بأيدينا ألا نزيد من إشعال النار بأنفسنا. وإذا لم يكن بأيدينا أن نأكل فلا نعود أنفسنا على النظر إلى الطعام.
وعلى الفرد أن يعاجل في علاج نفسه قبل أن يعاجله الأجل، أن يعاجل في الجهاد، أن يفطم نفسه من الكأس والسيجار والصدور العارية،أن يجاهد نفسه على ألا يتعود.


فإذا هو تعود، صار الغريب عاديا مألوفا، وتأصل في السلوك ورسخ في العقيدة حتى استبد بصاحبه.
إن أقوى الشهوات تذبل بالهجر وتضعف بالترك وتموت بالنسيان. وإذا كانت النار كامنة في الحجر، فإنها لا تخرج إلا بقدح الحجر في الحجر، فاستعن على ألا تقدح النار التي في الحجر.