لذة النص ومتعة السرد ما بين الحقيقة وثنايا التأويل
كنت دائمًا ما أبحث عن الحقيقة.. داهمني شعور بأن هناك ما هو مطموس، شيءٌ ما غائب عن الأضواء.. شيء في الداخل، في مجامع الأعماق، أظنهُ الحنين الدائم، الضارب بنيران الهوى.. لكل مشتاق!
بتلك السطور الغامضة أردت أن أستهل روايتي الجديدة، لبيان الإثارة والتشويق، ولأنني أميل لكل ما هو مبهم، وأعشق كل ما هو مغمور، فجعلت الإسهاب في خيالي المشوه عن الحقيقة نصيب الأسد من الغنيمة، فيا حبذا لو اتفق الجمهور مع ميولك وخيالك، عندها تجتمع الشمس مع القمر في سماء واحدة، وتسود لذة النص في أرجاء عقلك، وتُستبان مُتعة السرد لك، ثم تجد من يقدس مهرتلاتك مثلك، فتجد نفسك دون عناء في الصدارة على قائمة الأكثر مبيعًا، أو الأفضل في وصف ما يدور في أخلدة الناس؛ ليس لشيء سوى أنك تعلم من أين تؤكل الكتف، وليس بضامن لك البتة هذا المنزل أن تكون الأفضل جودة، لعلك فقط حريص على وصف الأحزان والأهوال المتفقة مع العامة، مما يجعل لسقوط كلماتك عليهم أثر سقي الظمآن الماء، هكذا بقصد أو بدون، الحقت النص بأهوائك وآرائك، ويبقى الحدث الأجَّل والأصعب: الاتفاق مع الجمهور!
هنا يأتيك بارت ليخبرك أن كل متذوق أدب يملك أحكامه الخاصة، وإن كانت نابعة في العموم عن هوى ساذج متراكم من ذكريات وقراءات يحتفظ بها المتذوق الأدبي عن الشغف، إنه اللقاء الآني والساذج بين النص والقارئ، الذي يجعل ممارسة التذوق موعدًا غراميًا بين الاثنين.
نعم يا سيدي، إن ما يجعل لكل أدب بريق يختلف عن الآخر هو ما يدور في أكِنتنا نحو النص القائم بين أيدينا، ليس فقط ما يسطره الكاتب عنه. تجد مثلًا من يحب الغموض -مثلي- يستشعر حرارة المكر والخداع عندما وصفت أجاثا كريستي أحداث روايتها العبقرية خداع المرايا بالآتي: «خيمت أجواء الخطر على القصر المبني على الطراز الفيكتوري الذي تعيش فيه كاري لويز… »، وتراها مرة أخرى على غير رواية في شاكلة مختلفة تردد كلمات غامضة في فصول عدة لتفتح باب الخيال وتشد وثاق الغموض فتقول «الشيطان.. البصرة.. ليفارج».
وإن منا من يحب الكلاسيكيات الخالدة ويعزف لها الموسيقى الهادئة ليتزن إيقاع الحياة، عندها نتدارك كاتب آخر ضاقت عليه أنفاس الهوى بما رحبت ورأى من لوعته ما رأى، فيُخرج لنا من قلبه الرث أزهار مستنيرة تضيء لتصبح كلاسيكيات خالدة، تتفق مرة أخرى مع أهواء آخرين عاشقين حالمين، لا يهبطون إلى أرض الواقع الأليم، لتصحبنا ماجدولين تحت ظلال الزيزفون إلى عالم مختلف، عالم ظلت فيه رسائل ستيفن وماجدولين هي الأقوى في رحاب الكلاسيكيات الأدبية، تلك التحفة التي صاغها ألفونس بأسلوب كلاسيكي رائع، وأصبغ عليها المنفلوطي فيما بعد أسلوبه الأدبي المميز، أحد أهم روايات الأدب والإبداع في العصور الماضية!
وماذا عن الواقع سيدي؟ فمرارة العالم وما نحياه بالتأكيد لاذ بمكان، وحظي بكلمات صادقات تخرج من عقول تفقه وتفهم الآلام التي تتسع الأفق، فنستشعر أحرف ماركيز وهو يسطر بأسى شديد في روايته الخالدة مائة عام من العزلة صدق الواقع المرير اللاذع وما نحياه من تيه، وخطل قائلا: «سوف ينحدر هذا العالم إلى الدرك الأسفل، عندما يسافر الناس في الدرجة الأولى، بينما يوضع الأدب في مركبة الشحن» وما أصدقها من عبارة، لسان حالى عند قرأتها «نأكل الحلوى ونحن في بلوى» ولعلها تشعرك أيضًا بالحسرة!
وكما يعرف النقاد الأدب دائما أنه تعبير عن الخيبة، فما لبثت رضوى عاشور إلا وجاءت بما يتفق مع رأي النقاد في إظهار الخيبة فكانت جلية واضحة في سطور رواية ثلاثية غرناطة «والقلب في بيت القلب يعتصر كأنما تقبضه يد الموت ويموت. يحدقون فيك ولا يرف لهم جفن. يلقون بك في قبو وحدك لا تقدر حتى على البكاء، وعندما تقدر تذرف الدمع الغزير، ليس لأن البدن يوجع، ولكنك تبكي على تلك المزق الآدمية التي تعرف أنها أنت».
وما أذهب إليه أن رولان بارت كان على قدر كاف من الصواب عندما أشار إلى أن النص موضع اللذة، ولا يمكن إثبات العكس، فبذلك أصبح النص متعة مادية من لذائذ الحياة، كالطعام الذي يغني ويسمن من الجوع، واللقاء الطويل بعد اليأس من ألم الفراق، لكنه طرح سؤال آخر يثير في داخلك علامات الاستفهام.. ماذا عن التعارض الكاذب بين الحياة العملية والحياة التأملية؟ سؤال معلق يتركه بارت في ثنايا التأويل، فما أشعر به سيدي، أن الكاتب يسري أهواءه وميوله كما أخبرتك، ثم تتفق معك فتخلق المتعة وتحدث اللذة، وتزداد متعة التذوق وتسقطها أنت على واقعك، فيصبح له نصيبٌ من الخيال! ويَذكرني جملة معبرة كنت قد قرأتها في مجلة أدبية ما، كانت بصدد موضوعنا ألا وهي «إننا لنرى جيدًا أن لذة النص شيء فضائحي، وليس ذلك لأنها غير أخلاقية بل لأنها خيالية!».
الآن أخبرك عزيزي، واسمح لي أن أناديك بعزيزي، فقد شاركتك للتو ميولي وأهوائي، وإن كلماتي لخير دليل بين يديك، وإن كنت أعرتني سمعك وبصرك وتلهف فؤادك لو هنيهة، فقد نلت اللذة بالنص معي واستدرجتك المتعة حتى بلغت النهاية وإن ذلك لهو النعيم المقيم.