الشّاعر الذي ملأ الدنيا وشغّل الناس
خلال القرن الثالث الهجري وحتى أرض الواقع غدا تعبير «الشاعر الذى ملأ الدنيا وشغل النّاس» شائعًا بين الأدباء والشعراء وغيرهم، وكان واضحًا في ذلك الحين وحتى الآن أن التعبير إذا أُطلق فالمراد هو أبو الطيب المتنبي. ولم يظهر التعبير إلا تماشيًا مع اتجاه كان سائدًا عندئذ لإقحام الرجل في كل شيء. ويُقال إن الجاحظ الثاني ابن العميد له قصب السبق في التلفظ بهاته العبارة. وأنا أتصور أن استخدام التعبير ما هو إلا موجة وقتية سرعان ما تنحسر وتندمل ويصدق في شاعر آخر، غير أن الأبحاث والمقالات التي تناولت هذا الجانب أثبتت أنني كنت في هذا التفاؤل على خطأ، ولا يكاد التعبير ينفك عن اسمه وعن حياته. و إن من حقي أن أتسائل؛ لماذا لا يتحقق التعبير لشاعر آخر منذ هذه القرون؟
لا أكاد أجزم في الحاضر مقارنة شاعر مع أبي الطيب المتنبي؛ لأنه أبدع لوحات شعرية جميلة، وجاء برؤى شعرية رائعة، وبرز كثيرًا عن غيره من الشعراء في الماضي وعصره ويبقى الحاضر محل شك، فأبو الطيب لم يكن نسيج وحدة في الشعر مع أنه أبدع وأجاد، ولعلك – أيها القارئ- تدرك مدى قوة الرجل جيدًا حين يتعامل العلماء الكبار مع قصائده، ويكفي ما قال المعرِّي في شرحه لديوانه المسمّى بـ «معجز أحمد» بحيث اعتبر نفسه الأعمى الذي أشار إليه أبو الطيب عند قوله:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي *** وأسمعت كلماتي من به صممُ
وهذا الكلام نابع من حب عميق له، وغير هذا من الأقوال التي تدل على عظم الرجل وقدراته. ومع هذا فلا زال الإبداع مستمرًّا منذ أن مات أبو الطيب، وأحسب أن الزمان لم يضن بمثله منذ هذه القرون، فالنمط الشعري الذي سار عليه المتنبي، نفسه يسير عليه الشعراء بمختلف أغراضه، ويبدعون كذلك، كما يأتون بالجديد والجدير من الصور، والجميل من المعاني. ويقال إن الحي قد يغلب ألف ميت، فإن كان هذا الكلام صحيحًا وصادقًا، وبالتالي فالتعبير يصلح أن يكون صادقًا في شاعر آخر، لأن المتنبي أصبح الآن ميتًا، فلو كان حيًّا لما افتقرنا إلى هذا الحديث أصلًا، لثقتنا فيه ولا سيّما أن الإشارة قد تمت أعلاه على أنه تفوق على من سبقوه ومعاصريه، لأن أشعارة مؤثرة جدًّا جدًّا، وهو من الشعراء الذين يبوحون بما تعانيه نفوسهم دون التكلف، ويعتبر الشعر المؤثر ما نابع من عميق النفس، ويترجم وجدان الشاعر مع التلفظ بمعاناته التي هي عصارة الروح. ولم يكن من الشعراء الذين يصعب عليهم التعبير عن معانتهم إلا بعد جهد جهيد. ألا ترون الرجل يرتجل في بعض قصائده، ومن أجمل ارتجالاته الأبيات الواردة في مذلاج قصيدة له مطلعها «واحرَّ قلباه» وقصتها طويلة وسردها ليس هنا، وسنقتصر الاهتمام على الأبيات المقصودة، وسبب الارتجال هو القول المتكرر من لدن أبي فراس عم سيف الدولة، فأغضب المتنبي ورمى القرطاس من يده، وبدأ يرتجل قائلًا:
سيعلم الجمع ممن ضمّ مجلسنا *** بأنّني خير من يمشي على قدم
أنا الّذي نظر الأعمى إلى أدبي *** وأسمعت كلماتي من به صمم
أنام ملئ جفوني عن شواردها *** ويسهر الخلق جرّاها ويختصم
ورغم كلّ هاته المميزات التي يمتاز بها المتنبي ، فإنّي واثق على أنّ في أرض الواقع من يملكها ، ومع ذلك فلست في هذا المقال لأعيّن شاعرا يستحقّ حمل التعبير ، لأنّ الأمر نسبي ، فالعراقيون يرون شعرائهم مؤهلّين له والسّوريون كذلك والنيجيريون والسّنغاليون والغينيون وهكذا دواليه. فلو أطلق زمام الأمر لتعيين شاعر يستحق حمل التعبير بعد المتنبي، لأفضى الأمر إلى الفوضى ، ولا أحسب أنّ الأفكار ستتحد كما اتّحدت لصدق التعبير على المتنبّي.
وفضلا عن هاته الأفكار كلّها حول التعبير ، فنلحظ تأثره بأفكار النّاس ورواجه في العالم ، مع ما قيل في حقّ أبي الطيّب أنّه ادّعى النبوّة ، وطمع في الولاية ، وكان متكبّرا، ولعلّ هاته الأوصاف بمثابة الآلات التي تعينه في قرض الأبيات ، ومن يتجول في ديوانه قليلا ، لا يغيب عنه التقاط القضية الرئيسية فيها. فأبو الطيّب متميّز جدّا في أسلوبه وفي إبداعه ، وفي اللوحات التي يرسمها ، وفي خياله الطلق الرحب وفي تحليقه الشّعرية .و يعتبر أفضل شاعر في العصر العباسي ، ومعظم قصائده بين المدح والرثاء والهجاء ، وتميّز بشيئ عزّ نظيره بين الشّعراء فإنّه لا يلقي شعره واقفا بين يدي سيف الدّولة . ولعلّه يمثّل في هذا الموقف قوله :
وفؤادي من الملوك وإن كا *** ن لساني يرى من الشّعراء
هكذا المتنبي ، كأنّه و الحقيقة متلازمان كالظل في الغدير ، والشك و الصمت ، وهذا هو النهج الذي انتهجه ، والأسلوب الذي سار عليه ، حيث تميّز في هذا الخط الشعري عن غيره ، لهذا قلت إنّه متميّز جداّ ، لم يقلّد أحدا ، وهذا يدلّ على عمقه وأصالته الشعرية ، وبعد خياله وسعة أفقه . ولا شكّ أنه حامل لهذا التعبير لأنه صدر من شخص ما، حتى كتب الله له القبول ، فأصبح عَلَما له ، وهذا لا يدّل على مثلبة الشعراء فقد جاد الزمان بمن تفوّقوا عليه في انحاء العالم ، ويبدعون بأحسن الأشعار وأجادوا وأفادوا والله لا يضيع أجرهم جميعا . فأشعار الشّعراء مرتبطة بأذواق الناس ، فما كان جيّدا عند زيد قد لا يكون كذلك عند عمرو وهكذا . لذلك أرى أن ندرج جميع الشّعراء المفلقين تحت شعار ” الكلّ يبدع والابداع حيّ” .
وننتهي من كلّ تلك التفاصيل والحيرة والشكوك إلى الظن بأنّ تعبير “الشّاعر الذي ملأ الدنيا وشغّل الناس” المتوراث، ما هو إلا عَلَمٌ على أبي الطيّب المتنبي ، وليس إمارة يملكها في كلّ السنّة تحت شّعار إنّ الزمان لم يجد بمثله ، كلاّ وألف كلاّ ، فالنمط الشعري الذي سار عليه ، لم يختلف عن نمط الشعراء ، وبالتالي فالشّعراء كلّهم تحت ظلّ “الكلّ يبدع والإبداع حيّ”.