هل حقًا ماتت الفلسفة؟

Comments 0
الناشرTopical magazine 
العنوان ?Philosophy-is it really dead
التاريخ27 يوليو 2018
الكاتب Dino Jelcic

صرَّح الراحل “ستيفن هوكينج” ذات مرة أن الفلسفة قد ماتت. على أن الرَّصد الدقيق للجهود العلمية يرينا أنها لا تزال حيَّة، وبشدَّة!

في كتابه الشيِّق “التصميم العظيم” إجابات جديدة لأسئلة الكون الكبرى -بالاشتراك مع ليوناردو ملودينو- أعلن عالم الكونيات والفيزياء النظريه ستيفن هوكينج أن “الفلسفة قد ماتت”! قوبلت هذة الكلمات بنوع من الاستحسان الجاهل، الأمر الذي جعل هذا الإعلان يبدو أكثر إقناعًا مما هو عليه في الحقيقة.

وعلت أصوات ذوي الميول الفلسفية، الذين لم يتقبلوا حتى مجرد التفكير في مثل هذه الاحتمالية، واتهموا “هوكينج” بالجهل بالفلسفة أو حتى بتكوين الافتراضات الفلسفية دون وعي. كيف بإمكان الفلسفه أن تموت؟ أما زلنا نحجم عن التساؤل عن طبيعة الحقيقة والوعي الإنساني وأصول الكون ووجود الإله؟ غير أن هذا النوع من الإجابات يضع فرضيات جدلية بشأن الحجة الرئيسية لـ”هوكينج”، تلك الفرضيات التي لا تشكك في قيمة هذه الأسئلة أو أهميتها، بل تشكك في السلطة الرئيسية المسئولة عن البحث فيها وتدارسها.

رغم  النجاح الذي أحرزه الفلاسفة في تعزيز معرفتنا بالعالم، فلم يستطيعوا مواكبة الاكتشافات العلمية، في مجال الفيزياء تحديدًا. أصبح العلماء لا الفلاسفة حاملي شعلة الاستكشاف في مسعانا للمعرفة.

أما زلنا نحجم عن التساؤل عن طبيعة الحقيقة والوعي الإنساني وأصول الكون ووجود الإله؟

وحسب قول “هوكينج” فالفلسفة هي مبدأ بالٍ تنقطع صلتنا به بمرور الزمن، يوظف التكهنات أو التأملات الخالصة في تفسير كيفية عمل الطبيعة. علاوةً على ذلك فإن الحجج الاستنباطية والتجارب الفكرية والحقائق المضادة وغيرها من تقنيات الفلسفة للمنطق السليم، كلها أدوات عديمة النفع تمامًا في تفسير الحقائق التجريبية، فالملاحظة الدقيقة والقياس والتجريب هي وحدها الطرق التي يُعوَّل عليها للوصول إلى المعرفة الحقيقية بالعالم الطبيعي. إذا كان “هوكينج” على حق، فهل يعني هذا أن الفلسفة على أعتاب الاندثار؟

لوضع الأمور في نصابها الصحيح، نتناول للحظة إطار هوكينج النظري في فهم العلم، الذي يدعى “الواقعية المعتمدة على النموذج”. يبدأ بملاحظة أننا نشكل نماذجنا عن العالم انطلاقًا من مدخلاتنا الحسية (وهذا بالضبط ما تعنيه فكرة مناهضة الواقعية) ثم بعد ذلك “يقفز” إلى معيار عملي أو فعال لقياس الجدوى، فيقول أن النماذج الملائمة تمامًا للبيانات الرصدية والأنجح في التنبؤ بالأحداث المستقبلية تصنف على أنها “حقيقية”. ببلاغه يتلو “ريتشارد دوكينز” في كلمته الختامية هذا المنطق البراجماتي “العملي” من كتاب “كون من لا شيء” للورانس كراوس: “قد يكون العلم غريبا وغير مفهوم -أكثر غرابةً وأقل مفهومية من أي لاهوت- ولكنه يعمل ويخرج بنتائج.”!

فلسفة ستيفين هوكينج

“ادعى ستيفن هوكينج أن الفلاسفة لم يواكبوا التطورات الحديثة للعلوم.”

ولأن فاعلية العلم تُقاس بنجاحه في الحصول على نتائج عملية، فليس مستغربًا أن له اليد العليا، على أنه ليس من العدل عقد هذا النوع من المقارنة. لمَ على الفلاسفة أن يتقيدوا بهذا النوع من المتطلبات العملية/التقنية ليضمنوا تدبير معيشتهم؟ وبالإضافة إلى ذلك، أليس الأمر أن الفلسفة تخلق -أو ربما تكون- المعنى والقيمة للحقائق العلمية اللازمة للمشاريع العلمية؟

يبدو أن ما يكمن وراء رفض “هوكينج” للفلسفة هو الافتراض الخاطئ بأن الفلسفة في جوهرها معادية للطبيعة، وهو ما يبرر عدم تعاطفه مع ما يسميه الفلاسفة (المنهج النظري أو الفلسفة التأملية). وبعكس طبيعية العلم الجامدة التي تفترض أن العالم يتكون حصرًا من ظواهر طبيعية تحكمها القوانين والنظريات العلمية، فإذا كانت هذه التفرقة تمثيلًا للحدود التي يرسمها “هوكينج” بين الفلسفة والعلم، فإن هذا الأخير هو تفسير غاية في التبسيط للعلاقة المعقدة بين ميداني البحث الفلسفي والعلمي.

يبدو أن ما يكمن في رفض “هوكينج” للفلسفة هو الافتراض الخاطئ بأن الفلسفة في جوهرها معادية للطبيعة.

يتكيف أغلب الفلاسفة في يومنا هذا مع نسخة “أضعف” من المذهب الطبيعي، رافضين وجود ظواهر خارقة للطبيعة كالأشباح والأرواح والإله، مع احتفاظهم رغم ذلك باعتقادهم في وجود المزيد فيما يخص العالم (الطبيعي) أكثر مما يرينا العلم. لا يزال ما يجب بالتحديد أن تشكله هذه الفئة من الظواهر الوسيطة موضع خلاف، فعادةً ما تتخذ الحلول المقترحة شكل أطر عمل نظرية جديدة لفهم التصورات والنظريات العلمية، أو ربما تفسيرات أكثر تحررية للمذهب المادي، أي وجهة النظر الميتافيزيقية القائلة بأن كل شيء في الوجود يمكن اختزاله إلى حالة أو خاصية فيزيائية.

ما ينشأ نتاجًا لهذا متعلق بمصدر هذه المعرفة الغريبة: هل هي في الأصل ذاتية أم موضوعيّة؟ لتجنب الإجابات المتشككة لهذا السؤال أطلق الفيلسوف الألماني “إيمانويل كانت” على هذه المعرفة “المعرفة الخارقة للطبيعة” مشيرًا إلى الوحدة التي لا تنفصم بين الذاتية والموضوعية. إن المفهوم الأصيل للحقيقة الفلسفية بوصفها وحدة واحدة وشيئًا غير متمايز ولا قابل للتغيير، ترجع جذوره إلى فَجر الفلسفة.

في الفلسفة الكلاسيكية بداية من “أفلوطين” وصولًا إلى “كانت”، كانت المصطلحات العامة التي عبرت عن العلاقة بين أشياء معينة وخصائصها العامة تُفهَم على أن لها وجودًا حقيقيًا (دائمًا وغير قابل للتغيير)، بعكس الوجود العرضي للأشياء المادية التي منحت تلك الأشياء خواصها الأساسية. لا يمكننا فهم وجود هذه الوحدة الميتافيزيقية للأشياء المادية والعقلية بالنظرية أو بالتجريب، وإنما يمكننا فهمها فقط بالحدس، وتلك هي النتيجة التي انتقلت إلى أفلوطين من القصص الأسطورية القديمة والتقاليد الصوفية.

كان “أرسطو” هو أول من حكم على نظرية “أفلوطين” حين قدم منظورًا تجريبي المنحى، وبتلك الطريقة بدأ نقاشًا فلسفيًّا طويلًا بلغ ذروته في القرن السابع عشر، الوقت الذي انبثقت فيه نظريتان معرفيتان متعارضتان. ستثبُت لنا صحة المذهب التجريبي في نهايه المطاف بعد فلسفة “أرسطو” التي تعتنق مبدأ كون تلك الأفكار والذكريات والمعتقدات وبقية الوظائف المعرفية العليا أحاسيس في الأساس.

أعلن المذهب العقلاني وجهة نظر معاكسة تعتبر أن لا وجود للأشياء الخارجية إلا بوصفها محض أفكار، وانطلاقًا من هذه الفرضية العامة، صيغ بعد ذلك إجراء منهجي صحيح يتكون من استدلالات استنباطية واضحة ودقيقة نشأت من مسلمات بديهية ثبتت صحتها بالحدس الفطري.

فلسفة أفلاطون

كان “أرسطو” هو أول من حكم على نظريه “أفللاطون” حين قدم منظورا تجريبي المنحى، وبتلك الطريقة بدأ نقاشًا فلسفيًّا طويلًا بلغ ذروته في القرن السابع عشر. 

غير أنه من المهم أن نضع  في اعتبارنا أن هذان التوجهان الفلسفيان، وإن غلب على ظاهرهما التنافس، فهما في الأصل أكثر ارتباطًا ببعضهما مما يُعتقد. 

لكي يوضح لنا المذهب التجريبي سبب كون بعض الحواس موضوعية في أصلها (الخصائص المادية الخاصة بالحجم والشكل والصلابة والعدد والحركة، بعكس الحواس الذاتية الخاصة بالبصر والسمع واللمس والشم والتذوق) احتاج لتوفر نوع من البناء العقلاني يرافقه معلومات مشتقة من الحس. وعلى صعيد آخر، لم يملك المذهب العقلاني أجوبة عن كيفية انطباق المعرفة أو الحجة المستقلة عن التجربة على الخبرات الإدراكية في سبيل تشكيل معرفة موضوعية عن العالم.

وقد حاول “كانت” أن يتغلب على هذه التفرقة، فاقترح إطار عمل موحد قد يكون حلًا لهذه المشكلة. وعندما اقترح هذا الاقتراح، افترض الوحدة التي يتعذر تفسيرها للذاتية والموضوعية والتي أطلق عليها اسم “نومينا-Noumena” عالم الأشياء في ذاتها. وبقدر كون الصورة الفوتوغرافية يحدد ماهيتها تركيب الكاميرا، فإن ما نفكر فية وندركه، بالمثل، يحدده تركيبنا الفطري الحسي والمعرفي. ويظل ما يكمن وراء تلك القيود بعيد المنال لنا إلى الأبد.

أحيانا تكون المفاهيم التي نستخدمها في وصفنا للطبيعة غير مناسبة سوى لالتقاط غموضها الساحر الذي يتجاوز طاقاتنا البشرية على نحو هامشي. لكن في حالات معينة يمكن للحدس أن يساعدنا في تجاوز حدودنا البيولوجية.

حين سُئل “نيلز بور” أحد مؤسسي علم فيزياء الكم عن مدى صحة وجود عالم الكم مستقلًّا عن أوصاف الكم الميكانيكية، افترض أن هذه زاوية للنظر إلى الأمر خاطئة، لأن مهمة الفيزياء ليست معرفة ماهية الطبيعة، و إنما معرفة رأينا بصددها. عاب نقاد “بور” -الذين اتهموه بغموضه من ناحية رأيه في علم ما وراء الطبيعة- عليه زعمَه بانتفاء الوجود الموضوعي للأشياء الكمية منحازًا بذلك لصالح رؤية باطنة شبه دينية للعقل وللواقع الموجودين في وحدة لا يمكن فصلها عن بعضها.

فلسفة فيزيائية

افترض بور أن مهمة الفيزياء ليست معرفة ماهية الطبيعة، و إنما معرفة رأينا بصددها.

يتجاهل منتقدو بور حقيقة إيمانه بموضوعية المعرفة، رغم أنهم ظلوا يرون وجوب إعادة ابتداعها وإعادة بلورة مفاهيمها، لو كان غرض ذلك شرح آخر الاكتشافات العلمية في عالم ما دون الذرية شرحًا ملائمًا. وهذه النظرة الفلسفية تدعونا، كما فعل كانت، إلى رؤية حقيقة أن الطبيعة -التي تتصرف باعتبارها سطحًا لا يكف عن التوسع ويشبه المرايا- تكشف لنا انعكاساتنا نحن. وهذا يرينا شيئًا مهمًا عن الفلسفة بقدر ما نربطها بالعلم، نظرًا لأنه كلما كبرت في أعيننا الصورة واتضحت وزادت تفاصيلها، أدركنا أنها على كل حال محض صورة، ما يمنعنا من الوصول إلى أعماق المجهول.

على حد قول “أينشتاين” فبدون شعور الغموض، الذي هو مصدر للفن والعلم والفلسفة الحقيقية، نحن بالتأكيد عديمو الجدوي، مفتقدون للمهابة والإلهام والإثارة اللازمة للدفع بالحدّ الفاصل بين المعروف والمجهول أكثر وأكثر.

إذا كان العلم يكشف الحقائق، فإن الفلسفة تكشف (أو تبني) من تلك الحقائق معنًى وقيمة، متسائلة عن الطبيعة البشرية للواقع بدلًا من الطبيعة الموضوعية للوجود البشري. فالعلم وحده عاجز عن إرضاء توقنا لمعرفة إجابات هذه الأسئلة الكبرى. وإذا ماتت الفلسفة، فلا معنى لجهودنا، إن كان لنا جهود أصلًا، وهذا بالضبط حال جهودنا، لا وجود لها! أما عن أولئك الذين يشجبون الفلسفة لكونها بائدة، فنرد عليهم بأن الأسئلة البارزة التي ما زال للفلسفة دور في الإجابة عنها لا تزال صائبة وثرية كأي وقت مضى.