الحبُّ والحياة وأشياء أخرى | قربة
قرَّرت أن أكتُبَ عن الحياة.
الحياة؟ هاه!
كلمةٌ قصيرةٌ جدًّا، لائقةٌ ومناسبة، تصفُهَا تمامًا.
تتصارع المشاهد في رأسي الآن.. الأفكار والدروس التي تعلَّمتها، ضحكات أُمِّي وتعليماتُ أبي، وصورٌ عالِقةٌ في ذِهني لتِعدادِ بُكائي ومرَّات انتصاراتي.
عندما كنتُ صغيرة، كانت الحياةُ -في مُخيِّلتي ونظرتي القاصِرة- خضراء اللون، لا خوف أو قلق، فقط حبٌّ وأمان.
تجَلَّت كل مُعاناتي في مسألةِ رياضيات سخيفة، أو قضاء العيد بدون تجمعٍ عائلي، وربما هَلَعي الأكبر تمثَّلَ في رؤيةِ صرصورٍ طائر.
كانت الحياةُ طويلةً وجميلة، آنَذَاك!
كَبُرتُ قليلًا لأتعلَّم معنى كلمة الأصدقاء والأحلام التي لا تجئ أو تجئ أحيانًا.
تعلَّمتُ ولاحظتُ أنني أبذل الكثير حقًّا، من أجل من أحبُّهم، تمثَّلت أولى صدماتي -في الحياة- في كونِها قاسيةً لا تُعطينا ما نستحقّ أو كلّ ما نستحق، وأنَّ قرار تقبُّلنا القليل -رُغم بذَلِنَا كلَّ ما في وُسْعنا أو وسعنا ذاته- في أيدينا وحدنا.
في كلِّ مراحل حياتي، آمنت أنني كبيرة ومتّزِنة وعاقِلة، حتى كَبِرتُ يومًا لأؤمنَ أنني لم أكُن هكذا، وأن الاتزان والعقلانية لا يتَّسِمون بالنهايات وليس لهم حَدٌّ واضح، لذا.. وبدونِ تحديدٍ لعقلانيّتي واتّزاني الآن، علَّمتني الحياةُ أن أؤمنَ بالمتناقضات!
تعلَّمتُ أن الأصحابَ كثيرون، والأخِلّاءَ قليلون، وأنَّه سيصعب عليكَ إيجاد من يسمع قلبك، ويربُتُ على روحك ويَرَاها، سيصعُبُ حقًّا إيجاد من يُعينك على نفسك، وعلى طريقِ الله، أو يتحمَّل المَسير معك أحيانًا في صمت، بل ويستمتع به.
ظننتُ لفترةٍ طويلة أنَّ الدوائر الكبيرة الواسعة، تُضاهي كَذِبةً وضَحِكةً صفراء، وآمنت أن الجماعةَ تُشتِّتُ القلوب؛ ولكن رأيتُ بعدها حَلَقاتَ ذِكْرٍ، في المسجد القريب من البيتِ وقلبي، فعاوَدت أعترفَ أنَّ الجَمَاعة كثيرًا ما تُعيدُ القلوب إلى الله، وأنَّ كلَّ ما هو إليه وفي طريقِهِ سالِمٌ سالِمْ!
تعلَّمتُ وخِفْتُ كثيرًا أن أزرعَ الحُبّ والعطاء في غيرِ أهلِه، قضيتُ ليالٍ طِوَال أخاف البشر ونُكرانهم للجَمِيل، وفَهمِهُم الخاطئ. بذلتُ الكثير باسم الحُب، الحُب فقط، أكان من الصعبِ تقبُّلُ هذا؟
ولكن بَعدها، نظرتُ إلى وجه أمي، واستشعرتُ جمال قلبها، وعطاياها التي لا تَنفَد، وحبُّها الذي لا ينضب.
فكَّرتُ يومًا بأنَّه ماذا لو أنَّ بداخلِ كُلًّا منا، أُمًّا صغيرة! تحمل العالَم على كَتِفَيْها والحُبّ، الكثيرُ من الحُبّ في قلبها؟
يجتاحُ كُلًّا منا أحيانًا الشعور بالعطاء والحُب تجاه كل من يعرفهم ومن لا يعرفهم، ولا يحتاج لأيِّ مقابلٍ وقتها، شعرتُم بذلك من قبل، أليس كذلك؟
آمنتُ أيضًا -على النقيض- بأنَّ الإنسان يحتاج بين الفترة والأخرى إلى استراحةٍ طويلة؛ ليُجمِّع طاقات بَذلِه، ولينعَمَ بالحب والعطاء في المقابل.
وآمنتُ أكثر بلحظات الضَّعف الإنسانيّ، ولحظات الهَشاشة والتردد التي تنهش عقولنا بين الحين والحين، وتعلَّمتُ في وسطِ كل هذا كيف أُعطي مساحة، وأن أختارَ كلماتي بعِناية، وأن أبتسمَ عشوائيًّا للمارَّة العابسين، تعلمت كيف أربُتُ على القلوب دون أن أنْبِسَّ بِبَنْت شَفَة!
آمنتُ جدًّا بالمثل الشَّعبيّ الذي يقول: “الدنيا أخْد وعَطَا!”
لن تستطيع احتضان العالَم وحدك، يجب أن يربُتَ العالَم على ظهرك في المقابل!
دروسُ الحياةِ لا تكون دومًا لطيفة؛ أحيانًا تجئ على طبقٍ من الذَّهب، وأحيانًا كصفعةٍ تَصُمُّ الآذان!
عانيتُ في أوقاتٍ كثيرة، وربما أَلَمَّت بي الأفكار حدَّ الصُّراخ، وكأنَّ العالَم تآمر دُفعةً واحدةً ضِدِّي!
أعلم أنكم شعرتم بمِثلِ هذا الإحساس يومًا ما، أراكم الآن تتذكرون وتبتسمون ابتسامةً صغيرةً ساخرة على جانب شِفاهكم، من مروركم بتلْكَ اللحظات رغم صعوبتها.
في أصعبِ اللحظاتِ مرورًا وأشدَّها إيلامًا يرسل الله لك العلامات لتنير الطريق!
دائمًا ما أجِدُ الله وأستشعر لطائفه بين الصواعق التي تَهُزّ كَيَاني وروحي؛ يشملني تدبيره الإلهيّ الأعلى ويهدأ قلبي بذِكر اسمه، تبارَكَ جَلَّ وَعَلَا وتنزَّه عن أي نقص.
“إنَّك تقدِرُ ولا أقدِرُ، وتعلَمُ ولا أعلَمُ، فبرحمتِكَ لا عَمَلِي..”
“لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا”
“مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ”
هَدَأ قلبُكَ للحظاتٍ، أليس كذلك؟
تعلَّمتُ في هذه الأوقات العَصيبة أنَّ الركون إلى جنبِ اللهِ لا يأتي إلَّا بالخير، ولا يدفع إلا الشَرّ والكُرْه والقُنُوط، وأنَّ شتات الطُّرق واختلاف العلامات لا يهدِّئهُم إلا طريق الله وسَبيلُه الأوحد.
ومن هُنا علَّمتني الحياة أعظم دروسها، وأجابتني على تساؤلاتي التي لا تُحصَى.
من أنا؟
ولمن أنا؟
وماذا أفعل هُنا بالتحديد؟
وإلامَ يَؤولُ هذا كله؟
إلَامَ تؤول الأحلام والخسارات والحبّ والتعب وطول الطريق وصعوبته؟
وإلَامَ تؤول الآلام والعقبات والظلم والعدل؟
إلَامَ تَؤولُ.. الحياة!
علَّمتني الحياة أعظم دروسها، أنَّه على قَدْرِ قِصَرها.. هي طويلة، وعلى قدر صعوبتها.. هي يسيرة، متى عرفنا طريقَ الله، وكيف أنه منبع كل شيء!
كانت الحياة تكبُرُ وتصعُبُ في ناظِري حينًا وتتيَسّر وتتمهَّدُ حينًا..
تكبُر حين يعلو في قلبي اسم “الحياة” وطولها ورتابتها، وتصغُرُ حين أذْكُرُ في نفسي أنَّها “زائلة” فلا يجب أن تُشقينا!
الأمور تبدو أقلَّ تعقيدًا وألمًا كلما نظرنا من أعلى وإلى أعلى، تصغُرُ المشكلات والمنغِّصات ونرى الحجم الطبيعي للأشياء، فلا نحزن حتى تذبُلَ قلوبنا ولا نفرح حدَّ البُكاء.
أيقنتُ أنَّ كلَّ هذا يؤول إلى الله، وأنَّ الميزان الإلهيّ عادلٌ يرى ويُقدِّر حتى مِثقال الذَرَّة، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْرًا يَرَهْ، ومَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شَرًّا يَرَه، وأنَّه حتى الشَّوكة يُشاكُها المرء يكفِّر اللهُ بها عن خطاياه.
أيقنت أنَّ النهاية ليست هُنا، ليست ما نراه، وأنَّ غاية أحلامنا لن تقِف عند حدود هذا العالم.
وأنَّ الصباحَ يكون جميلًا حين ننظر إلى ضوء الشمس، ويُعْلَى اسمُ اللهِ في أنفُسِنا، وأن التَّبسُّمَ في وجهِ أخيكَ صَدَقةٌ نُثابُ عليها، فمَا لنا -بني البشر- نوزِّعُ الابتسامات بصعوبة؟
و”إنَّ اللهَ يُحبُّ إذا عَمِلَ أحدكم عملًا أن يُتقنَه” فما لنا نتكاسل عن العمل كلَّ صباح؟
“وأن لَّيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَآءَ الْأَوْفَى” فلماذا نخاف عدم تحقُّق الأحلام؟
والله يرى السَّعي والجهد والمثابرة والمصابرة ويسمعُ الدُّعاء، وأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى، وأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى!
إنَّ الحياةَ وآلامها وخساراتها ودروسها القاسية وصفعاتها تُصبح أهوَن في رحاب الله، واليقين به العَدْل -جَلَّ وَعَلَا- والثقة في تدبيره وتأخيره وتقديمه، وفيما يُعطي ويأخذ.
وأنَّ إكمال الطريق والصبر على تحمُّلِه ما هو إلا به، وبيده العُليا وبقوته، وإِنَّ الْنفس لَأَمَّارَةٌ بِالْسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي، وإنَّ كلَّ جميلٍ منَّا ما هو إلا جَميل نعمته علينا، وهداية دينه وإسلامنا إلينا.
أيقنتُ بعد وقتٍ طويل بهذه الحقائق، وتِلْكُمْ الدروس، والتي كثيرًا ما تغيب عن خاطري الآدميّ القاصر لأستسلم لمعركة الحياة ومتطلِّباتها، وينتشلني منها كلَّ مرة ذِكْرُ الله وإبصار حكمته وإبداع خلقه، والتماسِ ألطافه التي تشملني من كلِّ ناحية.
نحنُ نحبُّ الحياة ما استطعنا إليها سبيلًا، وسبيل حب الحياة هو حب الله واستشعار وجوده الأعظم حولنا. وعندما نحبّ الله، سنحبّ الناس، وسنرفَق بهم وبقلوبهم وبرحلتهم المتعِبة جدًّا، ونتدارك معاناتهم والتي تشبهنا -في الأغلب- ونساعدهم على أن يُعاودوا المَسيرَ بين كُلِّ زَلَّةِ قدمٍ وأخرى، وأن نأخذَ بأيديهم، ونرفَقَ بأرواحهم المسكينة.
كن أنت الشخص الذي يهدي غيره للطريق، ويساعده على رؤيته تمام الرؤية، حتى وإن كانت رؤيتك -أنت- لا تزال ضبابية، كن أنت النورُ لأحدهم أو سببٌ لزوال شتاته وإزالة غشاوة عينيه، ببساطتك وحسن نواياك، ولا تنسَ أبدًا.. الكثير الكثير من الحبّ.
“ازرع الحُبَّ في الأرض تصبح الأرض سماءً، انزع الحُبَّ من الأرض تصبح الأرض مقبرة!” – البابا شنودة.
“سنُقاتل الناس بالحُب.” – الإمام حسن البنّا رَحِمه الله.
أَحِبّ
ابتسم
انشر ورودًا أينما تَطَأُ قَدَماك
عِشْ.. لله!