تحت وطأة العباءة
في غابةٍ ليست ببعيدة أكثر من اللازم ولا بقريبة أكثر من المسموح، بطبيعة الحال ممتلئة بالأشجار، في الواقع مكتظة، تشرق الشمس عليها من الغرب وتغرب من الشرق، تسقط الأمطار صيفًا بغزارة لتقل تدريجيًا بحلول الشتاء، تعمل الإناث في حين يظل الذكور في بيوتهم للقيام بالأعمال المنزلية وأحيانا لتجاذب أطراف الحديث، ينجب الأبناء آباءً، ليس هناك شيءٌ غريب على الإطلاق، فذلك ما اعتاد عليه جميع قاطنيها الحيوانات على اختلافهم. بالطبع لم يفكر أي سفيهٍ في أنَّ أيًا من ذلك قد يشكل صورة غير منطقية أو غير متجانسة!
الأشجار كانت كأي أشجار في تلك الحقبة، السيقان تضرب بجذورها نحو السماء في حين كانت كل الأوراق ممددة على التراب، بالطبع تم سن القانون هذا منذ سنوات لا تكفي كل أوراق الغابة لإحصاء عددها، وذلك تسهيلًا على الذئاب المخول إليهم أمر الأمن في الغابة إلقاء القبض على الطيور التي لطالما جنحت إلى خرق القوانين.
الأشجار هزيلةٌ وعجوزٌ بالفعل لكنها كانت كافية للغرض، من بين كل تلك الأشجار كان بإمكان الفنان فقط أن يميز بوضوح شجرة متهالكة في الجهة الغربية المطلة على النهر (نهر التهويدات) هكذا كان يُدعى، لم تكن قوية، لم تكن معتدلة، لم تكن سعيدة، فقط لونها كان أخضر أكثر من المعتاد!
تستيقظ العصفورة (ميلا) مبكرًا بين أوراق تلك الشجرة الخضراء أكثر من المعتاد للخروج إلى الغابة والذهاب للعمل، كانت (ميلا) عصفورة رقيقة وهشة، عيناها واسعتان وشفافتان بإمكانك بسهولة أن تري قلبها ينبض من خلال عينيها! بإمكانك أن تنظر خلال قلبها الشفاف أيضًا وتري من خلاله شيئًا ورديًّا وعفويًّا، جسدها قليل بالنسبة إلى عمرها وجناحاها أطول قليلًا من المراد، إلا أنَّك ستحب عدم الملائمة هذه ما إن تقع نظراتك على تلك الألوان المميزة ببهائها والواضحة على جناحي (ميلا) وعلى تلك الغرة المائلة للبياض أعلى جبينها، وحركاتها الرشيقة والمتخبطة معًا في آنٍ واحد، التي تذكرك بارتطام أولى قطرات مطر الصيف بنهر التهويدات، وصوتها الذي يشبه صوت هذا الارتطام على وجه التحديد…
تستيقظ (ميلا) محملة بكل هذا الجمال الأخَّاذ، تناديها أمها لترتدي ملابسها مسرعة كي لا تتأخر، فالطريق مليء بمخاطر أكثر عند التأخر، تقف (ميلا) أمام مرآة قديمة تبدو بلونها البني العتيق المائل إلى الاصفرار كمن يلفظ آخر أنفاسه بعد حرب طويلة، بالكاد ترى (ميلا) أيَّا من الغرة أو الألون أو غيرها. على الأغلب هي لا تدري شيئًا عن رونقها السحري، تشرب كوبًا من الماء البارد كما اعتادت، ترتدي ملابسها، تضع فوق جناحيها عباءة جديدة كما يفعل الجميع، كانت تلك العباءة موروثًا قديمًا لكنَّه ظلَّ مستمرًا على عكس كل الأشياء كزي رسمي يخرج به الجميع.
تخرج (ميلا) العصفورة مع أمها التي وضعت العباءة أيضا للعمل، تطير ببراعة وكأنما هي الوحيدة التي خُلقت للطيران، بالطبع هي تستطيع فعل أفضل من ذلك لولا ثقل العباءة الحديدية على كتفيها. كان هناك هذا المثل المشهور القائل: “كلما كانت ألوان الطائر أجمل، كلما ازدادت وطأة العباءة الحديدية”. كل شيءٍ يتعلق بالألوان إذًا! لكن ميلا علي الأغلب لا تعلم بشأن ألوانها، طارت بأفضل ما أمكن تحت العباءة، انفصلت عن أمها بعد شارعين فقط حيث تعمل بمكان أبعد، واجهت الغابة وحدها، خائفة، تعيسة، على يقين بأنَّ أحدهم وضع ملعقة في صحن الغابة، خلط كل الأمور بانفعال، كسر الصحن، ثم ترك كل شئ وراءه ورحل، هكذا!
يمر اليوم بطيئًا مملًّا بغيضًا، تطير (ميلا) ببريق أقل، كأنَّ بغض اليوم قد أصابها بمرض في جناحيها، تصل إلى المنزل، تدخل منهكة لتجد أمها العصفورة قد وصلت مسَبَّقًا، ترتمي (ميلا) في حضن أمها وتود لو تبكي، تبكي إلى أن تنطفئ جميع النجوم، تبكي إلى أن تذوب في حضن أمها كقطعة حلوى في فم عصفورةٍ طفلة، لا بل إلى أن تختفي وتتلاشى تمامًا، لكنها لا تفعل! فقط تبتسم، هكذا كانت (ميلا) تَبرُّ أمها، بأن تبدو سعيدة!
تنهض لتزيح عن كتفيها ثقل العباءة التي زادتها على إعياء الغابة إعياءً أشد خبثًا، تقبلها أمها بين عينيها الواسعتين والشفافتين -التي أورثتها إياهما- لتزيل عن وجهها وعن غرتها المائلة للبياض مشقة يوم كامل من الوحدة في مواجهة الغابة بأكملها.
تبحث (ميلا) عن فراشها بعينين أضناهما الحزن والتعب على حدٍ سواء، تحيط جسدها بجناحيها، تغطُّ في نوم عميق وهي تفكر ألَّا شيء في العالم، لا شيء على الإطلاق يستحق أن تصل إليه وبداخلك الكثير من الألم وفوق جناحيك عباءة جديدة…