عن الطرق الصوفية “التجانية نموذجًا”
هذا الحديث ليس حصرًا ولا عرضًا عن التجانية فحسب، بل يمتدّ إلى باقي الطرق الصوفيّة الموضوعة على الكتاب والسنّة، وكوني تجانيّا دفعني إلى اختصاصها في العنوان، وقد دعاني إلى تحرير هذا الحديث عدّة اعتبارات مجموعها مفاتيح ضرورية لفهم طبيعة الطريقة التجانيّة، ومحاولًا في نفس الوقت انحسار أفكار البعضيّىة في تصوراتهم تجاه هاته الطريقة مع الجهل عن حقيقتها وأصولها، وبالتالي أصبح من الضرورة مجابهة تلك الأخطار وحلّها بقدر المستطاع قبل أن تكون منتشرة في كلّ البلدان وسائرة على كلّ الألسن.
بدايةً.. يبدو بوضوح أنّ هاته الطريقة مؤسّسها الشّيخ أحمد بن محمّد التجاني -رضي الله عنه- الجزائري موطنا الفاسي مسكنا ومدفنا، وحول هذه الطريقة تجدر الإشارة إلى أنّها كانت تتمتع بشهرة واسعة في أنحاء العالم، وأيّد الله بها الإسلام في أقطار عدّة، وتشكّل هذه الشهرة بابًا للانتقادات الموجهة إليها وخلق الإشاعات البشعة تجاهها، لأنّ الكثيرين اتّخذوها سلّما للطّبق، لكن أهم عنصر يجدر بي أن أتوقف عنده في هذا الحديث هو العنصر الأصلي لهاته الطريقة، وهذا ما أحاول أن أتصدى له خلال هذا الحديث، كيف بدأت؟ موضوعها؟ وما هي شروطها؟
في مدينة تسمّى “بأبي سمغون” بولاية البيض “الجزائر”، بدأت أولى أشعة شمس هاته الطريقة بعد واقعة وقعت لمؤسّسها نرى أن نقتصر اللّسان حولها هنا. وقد أسّست على الكتاب والسنّة كما قال رضي الله عنه وبتعبير الشّيخ عبد الواحد النظيفي في الياقوتة الفريدة:
طريقته طريقة الفضل والرضى *** مؤسّسة على الكتاب والسنّة
ولم تكن هاته الطريقة في عصره منفتحة للجميع على اعتناقها لأسباب معتبرة، وفضلًا عن هاته الأسباب الأساسية، فقد عرفت الطّريقة انتشارًا واسعًا عن طريق الفيضة التي أوصى عنها الشّيخ التجاني، بحيث لن تزال الطريقة منتجة للإمداد والمداومة على يد تلك الفيضة. يقول عبد الواحد النظيفي:
تدوم وتبقى مع دهور طويلة *** وفي آخر الزّمان تأتي بفيــــــــــــــــــــــــــــــــــضة
فيدخلها الورى أفواج رغبة *** لما شاهدوه من لوائح وصــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلة
فيأخذها المهديّ عند ظهوره *** لدى من له الإذن الصحيح بطيبة
واعلم أيّها القارئ أنّنا لسنا نبالغ فيما نذكره لك أنّ الطريقة التجانيّة مؤسسة على الكتاب والسنّة، والأذكار التي تتلى فيها لها وجهها في الأصلين المعتبرين، وأذكارها هي الاستغفار، والصّلاة على النبيّ بأي صيغة، ولا إله إلا الله.. وقد أطال العلماء النفس حول هاته الأذكار، ولمن يرغب وشاء المزيد فليطالع كتاب “جواهر المعاني” ونظم “ياقوتة الفريدة” وكتاب “كاشف الإلباس عن فيضة الختم أبي العباس” وغيرها، وفي التي ذكرتها كفاية، وفي قول الشيخ إبراهيم إنياس عبرة لمن يعتبر:
وإن قلت هل ذا الورد نهج محمّد *** أقول نعم وردي لنيل صفاء
فما الورد إلاّ ذكر لله وحــــــــــــــــــــــــده *** نصلي على المختار خير وراء
فما فيه ذكر الشّخ أو ذكـــر غيره *** فوردي لداء العبد عين دواء
رويدكم لا تنكروا عن جهــــــــــــــــالة *** لبغي وعدوان وعين جفــــــــاء
فأما بخصوص الشروط التي أصدرها الشّيخ التجاني، لا تكاد تنفكّ عن الكتاب والسنّة، وتضمّ هاته الشروط ما يلي:
- المحافظة على الفرائض بأنواعها.
- أن يكون المريد قويّ الصلة بالقرآن تلاوةً ودراسةً وتأملًّا.
- تعمير المريد أوقاته بذكر الله تعالى وأفضل الذكر ما جاء في الذكر الحكيم.
- ميزان المريد الشرع في كل ما يفعل.
- إلزام الشيخ التجاني أتباعه بالتعلّم والتبحر في العلم.
- التجانية طريقة جهاد في سبيل الله.
إنّ المتأمل في هاته الشروط يلاحظ أنّ لكلّ منها له مرجعه الخاص في الكتاب والسنّة، ولأشياخنا رضي الله عنهم وأرضاهم تعليقات وتفاصيل حولها، لا يسع المقام لسردها، وقد تمت الإشارة أعلاه إلى بعض الكتب التي تناولها لمن أراد. وسواء اتفقتم معنا على مضامين هاته الشروط أم لا، فالذي لا شكّ فيه أنّ الأشياء الجميلة تظلّ دائمًا مظنّة للحسّاد، وخير دليل على ذلك هو الأعداد الهائلة من الكتب والمقالات التي تطعن وتنتقد القرآن الكريم الذي من صنع الله تعالى، والذي يقول -عز وجل- في حقّه “لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42). وقد ضمن الله الحفظ والخلود له بقوله “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) صدق الله العظيم. فإن وجد هذا حاصلًا مع القرآن فكيف بنسبة الطريقة التي هي من صنع البشر.
والأمر الآخر الجدير بالملاحظة هو أنّ التصوف بصفّة عامة مدرسة روحيّة لا ماديّة، وليس كلّ ما جاء فيه قابلًا للإنكار، لأنّ لهم مصطلحات تخصّهم ولا يفقهها إلاّ أهلها، كما كان للفقه والأصول والحديث مصطلحات تخصّها، اللهمّ إلاّ إذا كانت مخالِفة للشّريعة، فما عدا ذلك فلا. وقد أومئ الشّيخ التجاني صاحب الطّريقة التجّانية حول هذا الأمر مستشرفًا المستقبل بقولته المشهورة : “إذا سمعتم عنّي شيئًا فزنوه بميزان الشّرع، فما وافق فخذوه وما خالف فاتركوه” انتهى. وهي قولة تحجب مجالًا للنّقد بأي وجه لمن يعتبر.
والطّريقة التجانيّة الفريدة أسهمت في ازدهار النشاط الإسلامي لدى الغربييين، والآياء الذين شدّوا خيمتها قبل انتقالهم إلى جوار ربّهم، لهم أمل في أجيال تخلهم، فأوصوهم بالعلم النّافع والتبحرّ فيه قبل اعتناق أيّ طريقة صوفيّة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، ليعينهم في حمل عبء أثقالها، بل أغلبنا لا نأبه بآراء الرجال الكبار الذين يرموننا بالتعصّب والانقياد والنزق، فإنّ آراءهم تلك مثلهم سنا تجاوزها الزمن. بيد أنّ آراءهم هي الحقيقة، لأنّ الطريقة الصّوفية لا تكتمل إلاّ بالعلم وهذا ما أشار إليه شيخنا إبراهيم إنياس في كتابه روح الأدب:
فالعلم عمري هو إمام العمل *** كما أتى عن طه خير الرسل
وهولاء القوم هم الذين فتحوا المجال للجيل الناشئ لينالوا من ساداتنا الصّوفية، لأنّهم لم يمثلّوا هاته الطّريقة على وجهها، بل يقدّمون الحقيقة على الشّريعة، ويهتكون الشريعة باسم الحقيقة، وأشياخنا براء منهم. لأجل هذا يفضّل أن يكون لأي سالك لإحدى هاته الطرق أن يتخذ شيخًا عارفًا عالمًا يقوده إلى الأصوب، ويقيه عن المهالك، وهو المشار إليه في قول ابن عاشر:
يصحب شيخا عارف المسالك *** يقيه في طريقه المهالك
يُــــــــــــــــــــــذْكـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــره الله إذا رآه *** ويوصل العبد إلى مولاه
وهذا ما يجب على النّاقد المدقّق والمنكر أن يعيه ويدركه مقدّما، يميّز بين الطيّب والخبيث والأبيض والأسود. وإنّا لله وإنّا إليه راجعون على ما نشاهد اليوم، فالباحث يحكم عن شيء بمجرد إلقاء النظرة، فكثيرًا ما يوجد بعض المقاطيع في الشبكة العنكبوتية للمتصّوفين الأدعياء، فواجب الباحث هو البحث عن مدى حقيقة المقطع قبل رمي السهم إلى المتصّوفين جمعاء، لكنّه قاصر عن ذلك، ويعتبر هذا نقصًا حادًّا في حقّه ويجب الانتباه إليه، ويسّرني أن أنقل هنا تعليقًا رائعًا للشيخ إبراهيم حول شرط العلم الذي ذكرنا آنفا. قال -رحِمَه الله- في البيان والتّبيين ما نصّه: “إن الشخ التجاني -رضي الله عنه- ألزم أتباعه التعلّم والتبحرّ في العلم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، لأنّ الوزن بميزان الشرع وردّ الأمور إلى الله ورسوله عمل لا يتأتّى إلا من متعلّم.
فالتجانية بناءً على ذلك طريقة علم وحكمة، وإنّ من اتّبع الشيخ التجاني ثم ارتكب بدعة ضلالة فما جنى إلاّ على نفسه وأمّا الشّيخ التجاني فقد برأت ذمته بهذا الإعلان التاريخي الذي أيده سلوكه -رضي الله عنه- وسائر تصرفاته التي مبناها ومعيارها السنّة المحمّدية كما شهد بذلك الخاص والعام .” انتهى قوله.
وفي ملحق هذا الحديث يستطيع الباحث المدقّق أن يدرك رويدًا رويدًا مدى صحّة أصول الطّريقة التجّانية وإن كان ما يشاهد في الواقع مخالفًا للشّريعة، وقد تكلّمنا عن ذلك في صلب الحدبث بما فيه الكفاية، وأشرنا إلى بعض المصادر التي قد تساعد في السياق أعلاه. وعلى منتسب لأيّ طريقة صوفيّة تجانيّة كانت أو قادريّة أن يتقي الله في الظاهر والباطن، وأن يمتثل بأوامره ويجتنب عن نواهيه، وخير ما نختم به الكلام ونجعله مسك الختام قول ابن عاشر رحمه الله:
وحاصل التقوى اجتناب وامتثال *** في ظاهر وباطن بذا تنال
فجائت الأقسام حقًّـــــــــــــــــــــا أربعة *** وهي للسّالك سبل المنفعة
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن قربة