يوم أن ضُربت أمريكا للمرة الأولى

Comments 0

قبيل اشتعال الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩م-١٩٤٥م)، كانت تُفرض على أمريكا سياسة الحياد، وعدم التدخل في الدول الأخرى، وذلك طبقًا لمبدأ الرئيس الأمريكي جيمس مونرو (١٨١٨م-١٨٢٥م) الذي أصدره في ٢ ديسمبر ١٨٢٣م، وكان للخروج عن هذه السياسة  استثناءات، كوقوف أمريكا إلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية الأولى (١٩١٤م-١٩١٨م)، إلا أنها سرعان ما عادت والتزمت الحياد بعد انتهاء الحرب.


وباندلاع شرار الحرب العالمية الثانية، أكد الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت (١٩٣٣م-١٩٤٥م) في سبتمبر ١٩٣٩م وأقر على قانون الحياد ومنع تصدير الأسلحة للدول المتحاربة، إلا أن ذلك لم يستمر بضعة أشهر، ففي ٣ نوڤمبر ١٩٣٩م اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية قانونًا سمحت لنفسها من خلاله ببيع الأسلحة للدول المتحاربة، وأطلقت على ذلك “الحياد الإيجابي”.


ولم تستطع الولايات المتحدة أن تلتزم بحيادها طويلًا، حيث قامت بإجراءات اتسمت بأنها مُعادية لدول المحور وودية لدول الحلفاء، وبعد نجاح الجيوش النازية واجتياحها لفرنسا ووصولها للعاصمة باريس في منتصف ١٩٤٠م، بقيت بريطانيا تقاتل وحدها في جبهة الحلفاء، فعدل الرئيس روزفلت مفهوم الحياد وأعلن من جديد قائلًا: “سنمُد أعداء العدوان بكل ما نملك من موارد”، وكان بذلك الإعلان المباشر لوقوف الولايات المتحدة الأمريكية بجانب الحلفاء، إلا أنها مازالت لم تعلن الحرب ضد المحور ولم تشارك بقواتٍ عسكرية.


وعلى جانب دول المحور كان جنون العظمة اليابانية مجتاحًا للمحيط الهادي نحو الزيت والصفيح والمطاط، راغبًا في إقامة امبراطورية اقتصادية وعسكرية ليضمن من خلالها الحصول على النفط والمواد الخام، فأعلنت اليابان حمايتها للمستعمرات الفرنسية، واجتاحت الهند الصينية والفلبين وإندونسيا والملايو وسنغافورة، وبدت اليابان قوة لا تُقهر.


لم يكن للسياسة الأمريكية اعتراضٌ في بادئ الأمر طالما لم تُهَدد مصالحها في شرق آسيا، ولكن عندما حاولت اليابان السيطرة على الأسواق الصينية بما يهدد المصالح الأمريكية، أرسلت الولايات المتحدة تحذيرها لليابان وطالبت منها حفظ السلام، ثم فرضت عليها حصارًا جزئيًّا وقامت بتجميد الممتلكات اليابانية في أمريكا، وصرحت بريطانيا أنها ستقف إلى جانب أمريكا في حالة حدوث هجوم في المحيط الهادي.
لم تعبأ اليابان بكل ذلك، حيث كانت ماضيةً في تحقيق إمبراطوريتها.


شرارة الحرب


وفي سبيل تكوين الامبراطورية اليابانية، كان لابد من القضاء على المعارضات الخارجية والتخلص من العقبة الوحيدة التي تقف لها بالمرصاد، فوضع القائد العسكري  “ياماموتو” خطته بضرب أمريكا في أهم وأكبر موانيها “بيرل هاربر”، وهي قاعدةٌ بحريةٌ كبيرة في هاواي ومقر الأسطول الأمريكي.


ففي صباح يوم الأحد السابع من ديسمبر عام ١٩٤١م، شنت اليابان أولى هجماتها ضد أمريكا، واستمر الهجوم لمدة ساعتين لم يتوقف القذف خلالهما سوى دقيقتين، حيث كانت السفن تشتعل والأشلاء تتطاير.
انتهت المعركة تاركة خلفها نحو ٢٤٠٠ قتيل، وأصيبت ثمانية عشر سفينة حربية، وتدمير مائة وثمانية وثمانون طائرة، وعرف ذلك في أمريكا بـ “يوم العار”.


ولم تترك اليابان للأمريكيين وقتًا طويلًا للغضب، ففي غضون عشر ساعات فقط كانت اليابان تَدُك القوات الأمريكية الموجودة في الفلبين، وتعرض بيرل هاربر للهجوم مرة أخرى.


وكان بذلك شرارة الحرب المباشرة لدخول أمريكا الحرب، فأعلن روزفلت في اليوم التالي مباشرة ٨ ديسمبر الحرب على المحور.


يقول وينستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني عن الهجوم:


   “طوال الحرب لم أتلق صدمة مباشرة أشد من هذه، فعندما استدرت وانقلبت على سريري غاص الرعب كاملًا في داخلي جراء تلك الأنباء. لم تكن هناك سفن حربية بريطانية أو أميركية أساسية في منطقة المحيط الهندي أو الهادئ باستثناء ما نجا من بيرل هاربر؛ والتي أسرعت بالعودة إلى كاليفورنيا، كان لليابان اليد العليا فوق هذه الرقعة الشاسعة من المياه، في حين كنا ضعفاء وعراة في كل مكان”


انتهى الهجوم بانتصار ظاهري، يحمل في طياته وابل قريب بتدمير اليابان!


” هجوم خسيسٌ لا مبرر له”
هكذا صرح الرئيس الأمريكي ردًّا على الهجوم، وقدمت الحكومة الأمريكية ما حدث بأنه “مفاجئ وصادم”، إلا أنه لم يكن كذلك!


كتب بروس راسيت في كتابه No Clear and No” Present Danger ” أن الضربة اليابانية للبحرية الأمريكية جاءت كذروة لسلسلة من الأفعال العدائية المتبادلة، فعن طريق فرضها عقوبات اقتصادية على اليابان كانت حكومة واشنطن تدرك جيدًا أن ذلك يدفع باتجاه الحرب.


وذكر هوارد زن -المؤرخ الأمريكي والمشارك في الحرب- في كتابه ( التاريخ الشعبي للولايات المتحدة) أن أحد القضاة  “رادابينود” المشاركين في محاكم طوكيو لجرائم الحرب أبدى استياءه من الأحكام العامة الصادرة ضد المسئولين اليابانين، وقال إن الولايات المتحدة قد أثارت الحرب مع اليابان على نحو لا يقبل الغموض، وأنها توقعت رد فعل اليابان، وأن العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة كانت إجراءات واضحة من حيث أنها تمثل تهديدًا شديدًا للوجود الياباني نفسه.

 
وأضاف هوارد زن بقوله أن هناك سجلات توضح أن مؤتمرًا صحفيًّا للبيت الأبيض توقع حربًا قبل أسبوعين من حادثة بيرل هاربر وناقش كيفية تبرير قيام مثل هذه الحرب!


هل نجحت اليابان حقًّا في انتصارها؟


كان هدف الضربة اليابانية سحق أي محاولة أمريكية ضد التوسع الياباني، فاستهدفت بيرل هاربر لشل حركة الأسطول الأمريكي والقضاء على حاملات الطائرات، وضرب حقول النفط وهي التي تحتوي على مخزون ومصادر الوقود للسفن الحربية والطائرات العسكرية، وضرب قاعدة الغواصات بكل ما حولها من غواصات، لكنها أخطأت الهدف!


فلسوء الحظ الياباني كانت حاملة الطائرات في البحر تبعد عن بيرل هاربر، ولم يكلف اليابانيين أنفسهم عناء البحث عليها، كما لم يتحركوا لضرب مخزون احتياطي النفط واكتفوا بتحقيق ما اعتقدوه نصرًا.


وكان الثمن باهظًا، إذ أن الرد الأمريكي كان مدويًا، فاستخدمت الولايات المتحدة الأمريكية سلاحًا يتم تجربته للمرة الأولى، وفي يومي السادس والتاسع من أغسطس ١٩٤٥م، ألقيت قنبلتي هيروشيما و ناجازاكي، تاركة وراءها أكثر من مئتي ألف قتيل، وفي ذلك يقول أحد المؤرخين: “لم يسبق لقوة عظمى أن جلبت هزيمة أكبر لنفسها، عبر عمل أحرز لها النصر”.


فإن كانت اليابان انتصرت في بيرل هاربر، فالولايات المتحدة الأمريكية انتصرت في حرب عالمية خرجت منها وهي القوة الأكبر في العالم.