في البدء كان الفن.. قراءة في كتاب الفن والإنسان.

“ليس الفن لهوًا أو مجرد ترف، مهما يكن هذا الترف رفيعًا، بل الفن ضرورة مُلحة من ضروريات النفس الإنسانية في حوارها الشاق المستمر مع الكون المحيط بها، فإذا صح القول ألَّا فن بلا إنسان فينبغي القول كذلك ألَّا إنسان بلا فن”


رينيه ويج

في الحقيقة إن نشأة الفن لا يُمكننا تحديد أبعادها الحقيقية دون معرفة نشأة الإنسان نفسه؛ حيث توشك النشأتان أن يكونوا نشأة واحدة وليس هذا على سبيل المثال، بل على سبيل الحقيقة التاريخية…

فموّلد الفن قد ارتبط بموّلد الإنسان نفسه منذ اللحظة الأولى.

لكن في أول مراحل الحياة البشرية لم يكن هناك فن بالمعنى المفهوم لنا الآن، بل إنه كان مُقتصر في بداية الأمر على اكتشاف وسائل تُعين الإنسان على الحياة فقد كان وسيلة لزيادة قوة الإنسان، فلنأخذ مثلًا رقص القبائل المحموم قبل الصيد فقد كان يؤدي إلى زيادة شعور القبيلة بقوتها، أو رسوم الحرب وصيحاتها كانت تؤدي إلى زيادة المُحارب عزمًا وتصميمًا..

فكما كان يقول “أرنست فيشر” -المؤرخ الإجتماعي للفن-

“إن الوظيفة الأساسية للفن كانت منح الإنسان قوة إزاء الطبيعة أو إزاء العدو أو إزاء رفيق الجنس أو إزاء الواقع، أو قوة لدعم الجماعة الإنسانية، فلم يكن للفن في فجر الإنسانية بالجمال غير أوهى الصلات، بل كان أداة أو سلاحًا في يد الجماعة الإنسانية في صراعها للبقاء”

ومن هنا نستطيع أن نوضح كيف أصبح الفن بمفهومه لنا الآن من خلال ثلاث مراحل اساسية:

●المرحلة الجماعية.

●النزعة الانسانية.

●مرحلة الفرد.

ففي المرحلة الأولى نجد أن الفن تأثر في بداية الأمر بالمعتقدات التي تدين بها الجماعة، وقد كانت هذة السمة أشد ظهورًا في مرحلة الاستقرار الزراعي فقد حتمت الحياة الجديدة التجمع والتعاونْ ومن هنا نشأت التقاليد التي تتصل بعلاقة الأفراد ببعضهم، وبعد أن استقر الإنسان وقلّت الأخطار التي كانت تواجهه بدأ يُفكر في مصيره وماذا سيحدث بعد الموت ومن هنا تولّد الدين وتولّدت معه مظاهر العبادة المُختلفة ثم بدأت تظهر بيوت العبادة إلى جانب السكن.

فقد كانت جميع التجمعات الإنسانية منذ ما قبل التاريخ تشترك في عاملين اثنين، وجود شكل فني ما -ولو رسومات بدائية على جدار كهف- ووجود شكل من أشكال الدين، بمعنى الطقوس التي لا تفسير مادي لها.

يتضح لنا أن في هذة المرحلة الجماعية كان نشاط الإنسان كله موجهًا ومرتبطًا في كل أحوالهِ بغاية نفعيّة لصالح الجماعة، ومن ثم إنكار الفنان لذاته؛ إذ كان هدفه بأعماله الفنية خدمة الجماعة وليس مجدًا لنفسه بوصفه فردًا.

تأتي المرحلة الثانية

وفيها تتهاوى فكرة الجماعة وتحل محلها “عقيدة الإنسان” وتعني الإنسان المطلق وليس فردًا بعينه، ففي المرحلة الأولى كانت الآلهه هي مركز الكون ومحور الحياة بما لها من صفات وقدرات تفوق حدود الانسان وقدراته وعلى هذا تكوّنت العقيدة أما في هذه المرحلة اكتشف الناس أن قدرات الإنسان لا حد لها وان الكون كله مسخر لأجله ولمنفعته فهبطوا بفكرة الإله وأحلّوا مكانها فكرة الإنسان واصبح الإنسان هو مركز الكون ومحور الحياه..

فكانت نظراتهم مُوجّهه إلى العالم الخارجي ومنفعة الإنسان والوسائل التي تقضي على الخوف والقلق وإحلال الطمأنينة والسكينة مكانهم.

وفي المرحلة الثالثة

بعد أن فرغ الناس من دراسة العالم الخارجي لم يعد هناك ما يبعث الخوف والقلق فاتجهوا إلى أنفسهم وراحوا يتأملونها ويكتشفوا فيها عالم غريبًا ومثيرًا، وقد حدث هذا نتيجة لفقد الثقة في العقل الإنساني الذي مجدتة المرحلة السابقة وأن الإيمان بالفرد لا الجنس ولا الجماعة هو الأساس وهو الحقيقة، فأصبح الفرد يمجد نفسه ويخلد ذكراه من خلال الفن، فيسمح الفن للإنسان بالتواصل مع البشر بعده، ويسمح له بأن يترك بصمة أبدية، ومن ثم نستطيع أن نقول أن الفن نشأ جماعيًا، ثم أصبح إنسانيًا، وانتهى فرديًا…

فنجد من خلال ما سبق أن وظيفة الفن وأسباب الإحتياج له تتغير بتغير العالم وقواعده وأشكال التفاعل فيه، إنه أبعد المُنتجات الإنسانية عن الثبات والجمود، فالعلاقة بين الفن والإنسان علاقة ديناميكية تتشكل معطياتها دائمًا وفقًا للظروف الحضارية التي تعيش الشعوب والافراض في إطارها.

وهذا يوضح أن تطور الأساليب الفنية عبر الزمن وفي الحضارات المختلفة إنما كان انعكاسًا لتطور البشرية ذاتها…