جوارديولا ينتقم من خصومه
وفي الجزء الأول من هذه السلسلة تحدثت عن “انطلاقته التدريبية الأولى مع برشلونة”
وفي هذا الجزء سأتحدث عن عام 2011 وما جرى من تعديلاتٍ على طريقة لعب جوارديولا، ومزيد من النضج الكروي الذي حدث للفريق بعد السقوط الأوروبي في عام 2010 أمام إنتر مورينيو الذي قضى على أحد أسلحة جوارديولا بالدفاع المستميت والمرتدات الساحقة، حيث بادرت العديد من الأندية بتقليد الفكرة، فرأينا كل مباراة لبرشلونة على شكل فريقٍ يملك الكرة والآخر لا يسعى للكرة بل يقيم حصونًا دفاعية وينتظر المرتدة الوحيدة.
ما الحل إذًا!
فكر جوارديولا في الحلول الممكنة ورأى حلًّا مناسبًا، الحل كان عبارة عن تركيبة معقدة تشكلت في عام 2011 وانتهت بالفريق إلى القمة من جديد وتحقيق أكبر عددٍ قد حدث من البطولات الممكنة.
- المهاجم الوهمي..
أحد أهم أركان هذه التركيبة كانت فكرة المهاجم الوهمي “FALSE 9” والتي طبقها جوارديولا بوضع ميسي في هذه الجهة، فقد رأى الفيلسوف أن دورَ ميسي على الطرف محدودٌ للغاية وأنه يجب أن يتواجد في منطقة المناورات “منطقة الـ 18” ورأى في ميسي محورًا للعب بشكلٍ خرافي، لكن هذه الفكرة اقتضت التضحية بمهاجمٍ كبيرٍ بحجم زلاتان إبراهيموفيتش والذي أثار خلافًا كبيرًا مع جوارديولا، لكن حين رأت الجماهير نتائجَ تجربة جوارديولا نسي الجميع تواجد زلاتان من عدمِه، رأينا ميسي يصول ويجول ويسجل ثلاثيات وثنائيات وأحيانًا بالأربعة والخمسة في ضرباتٍ صارخة للجميع، رأينا الحل الذي لا حل له، اللاعب الذي استطاع خرق كل القوانين الطبيعية لكرة القدم وتقديم ما يُسمّى بعام ميسي الذي انتهى به الحال إلى تسجيل 91 هدفًا في عامٍ واحد، وهذا ما لم يقُم بتحقيقه أي لاعبٍ سواه في كرة القدم الحديثة.

- ثلاثي خط الوسط..
جوارديولا علم أن طريقته في نقل الكرة تقتضي وجود خط وسط غير اعتيادي لديه القدرة على أن ينقل الكرة بشكلٍ سريع بدون أن يفقدها، ينقل الكرة بانسيابيةً مختلفة عن الآخرين، أراد خط وسطٍ يستطيع التحكم بالأمور وقد حقق أمنيتَه.. بتواجد الثلاثي شافي هيرنانديز وأندرياس إنيستا وسيرجيو بوسكيتش استطاع جوارديولا أن يحقق المعادلة الصعبة.
شافي الذي كان قليل المشاركة ونادر الظهور، أصبح أكثر اللاعبين دقةً في التمريرات فقد ظل المحللون مندهشين من قدرته في التمرير، ومن ضمن المفارقات الغريبة أنه كان يلعب الكرة العالية بشكلٍ مختلف عن الباقين فقد كانت كرتُه حين ترتطم بالأرض تنزل ثابتةً من المرة الأولى دون أن ترتفع مجددًا وهذا الأمر لم يكن باستطاعة أحد أن يفعله… طوّر جوارديولا قدرته على التمرير والنظر إلى أرجاء الملعب وتحركات أصدقائه بشكلٍ سريع، الذهنية الحاضرة في الملعب التي حققها شافي جعلته أفضل لاعب خط وسط في هذه الفترة.
والثاني هو أندرياس إنيستا الذي كان لمعانه الأول مع فرانك ريكارد في نهائي أوروبا 2006 ضد الأرسنال، فقد كان الأرسنال متحكمًا في الكرة بشكلٍ ممتاز طوال الشوط الأول حتى قرر المدرب إشراك إنيستا، انقلبت الأمور حتى أن تيري هنري الذي كان لاعبًا للأرسنال في ذلك الوقت قال بعد المباراة بفترة:
“لقد كنا متحكمين في الأمور بشكلٍ جيد واستطعنا إيقافَ جميع لاعبي برشلونة خصوصًا لاعبي الوسط حتى شارك إنيستا في الشوط الثاني ووجدنا لاعبًا لا نفهمه، بدون كتالوج يجعلك تستطيع إيقافه، فقهرنا في خط الوسط دون أن نفهم ماذا يفعل!
إنيستا أصبح أكثر لاعبي خط الوسط امتيازًا في امتلاك الكرة حتى أننا كنا نعتقد أنه يضع لاصقًا في حذائه يجعل الكرة تلصتق به.. استطاع أن يجعل الجماهير تلقبه بالرسام الذي غير جوارديولا من ماهيته وجعله أفضل خط وسط مهاجم وآخر ما بقي من زيدان في خط الوسط.
أما عن الثالث فهو محور برشلونة الذي لُقِّبَ بعد ذلك بمحور الكرة الأرضية،
بوسكيتش أحد ناشئي برشلونة وإنتاجات جوارديولا الذي لم يعد مجرد لاعبٍ لديه بنية
جسدية قوية مثل ماكليلي أو كانتي لكنه استطاع التفوق على الجميع، لأنه غير فكرة
الجميع بأن لاعب الارتكاز هو لاعبٌ بدني فقط إلى فكرة أنه لاعبٌ يستطيع التحكم بخط
الوسط بعقله قبل بدنه، استطاع أيضًا أن يكون ممرر كراتٍ صاحب دقةٍ عالية
جدًّا لم يصل إليها سوى قليلين.
جوارديولا تعلم جيدًا كيف يضع هذا الثلاثي ويجعله القوة الضاربة الكبرى في خطته للسيطرة على منظومة كرة القدم فقد ظل الكثير من المحللين منبهرين من دقة وانسجام هذا الثلاثي بهذا الشكل الخرافي الذي لم يسبق أن فعله أي مدربٍ آخر.

- الجناح الخرافي..
توقعنا مع إدخال ميسي إلى منطقة العمليات “false 9” أن نرى هبوطًا كبيرًا في أداء الجبهة اليمنى للفريق والتي شغلها الناشئ بيدرو والذي لم يكن يعرفه أحدٌ سوى أنه أحد اكتشافات جوارديولا.
حتى رأينا صعودَ غولٍ جديد في هذه الجبهة وهو اللاعب دانيال ألفيش الذي أثبت بعد ذلك أنه أحد أفضل الأجنحة في تاريخ كرة القدم، غيّر جوارديولا من شخصية ألفيش بشكلٍ كبير، فأعطاه كامل الحرية كي يتحرك من الدفاع للهجوم بسرعةٍ غريبة وقدرةٍ عالية على التأقلم مع خط وسط الفريق وكأنه واحدًا منهم، أعطته تمريرات شافي السحرية قدرةً كبيرة على الانطلاق كما يحلو له، ولم يكتفِ بذلك بل قرر أن يقيم ثنائيةً خرافية مع ليونيل ميسي ظلت حتى عام 2015.
عرف الفيلسوف الطريقة التي يغير بها من أداء هذا اللاعب حتى قدمه لنا كأحد أفضل الأظهرة في التاريخ.

- الدفاع..
رأى جوارديولا مللًا كبيرًا في الطريقة التي يظهر بها المدافعون في كرة القدم، فقرر أن الماضي قد ولى وأتى عهدٌ جديد، عهدٌ يمتاز فيه المدافع بالقدرة على امتلاك الكرة وتمريرها بطريقةٍ سحرية من الحارس فالديس الذي أصبح أكثر الحراس تمريرًا للكرة بدقةٍ عالية إلى قلبَيّ الدفاع بيكيه وبويول بما قدماه من تمريراتٍ سحرية لخط الوسط واستخدام الأظهرة في التعاون مع الدفاعات.
قالها كيليني مدافع يوفنتوس ذات مرة:
“قبل مجيء جوارديولا كنا نعتقد أن الدفاعات بالطريقة الإيطالية هي الأقوى لقدرتها البدنية والقتالية العالية، حتى أتى جوارديولا غيّر هذه الفكرة وجعل أولوية مدافعي العالم أن يكونوا أصحابَ تمريراتٍ دقيقة على حساب الأشياء الأخرى فسقطت الكرة الإيطالية على مستوى الدفاع.”
- البطولات..
أن تمتلك منظومةً جيدة تبهر الجميع هو أمرٌ رائع، لكن بدون تحقيق نتيجة فعلية يعترف بها الجميع على صعيد البطولات هو أمرٌ أروع لكنه أكثر صعوبة، المدرب العبقرى مارسيلو بيلسا الذي أبهرنا بأفكارٍ خرافية للكرة الشاملة كانت مشكلته الكبرى هي النتائج، لكن جوارديولا استطاع أن يجعل البطولات جزءًا هامًّا من مشوارِه وحقق الكثيرَ من البطولات حتى أنه حقق 13 لقبًا مع برشلونة في أربع سنوات وهذا أمرٌ يفوق العادة.

الخلاصة..
في عام 2011 قدم لنا جوارديولا إحدى أبهى صور الكرة الشاملة كما يجب أن تكون، قام بغزو أوروبا وأخمد نيرانها المشتعلة حتى استسلمت له كرة القدم وأتت ذليلةً خاضعة تطلب منه أن يفرض شروطَه الخاصة.
في الجزء القادم سنتحدث عن “عام سقوط برشلونة وعزلة جوارديولا” انتظروها يوم الإثنين القادم…
فلسفة جوارديولا السحرية
فلسفة جوارديولا السحرية في عالم الساحرة المستديرة هي سلسلة مقالات تشرح كيف بدأ بيب جوارديولا في منظومة التدريب، وتأثيره في منظومة الكرة الحديثة وتطويره لمعظم أساليبها وصياغته لما يُسمّى بـ “فلسفة بيب” التي حطمت الخصوم وجلبت العديد من البطولات، وأصبحت طريقة لعب محبوبة لدى الجميع، طريقة تُجبِر الخصم على الاستسلام التام…