إيزيس كوبيا.. الوجه الآخر لقصة مي زيادة

Comments 0

دائمًا ما يقترن ذكرها بقصة عشاقها الثلاثة الأشهر: العقاد، الرافعي، والمنفلوطي. حتى صارت مي زيادة -بالنسبة لشريحة لا بأس بها من المهتمين بالأدب العربي- بطلة فيلم رومانسي حزين لا أكثر، وجاء لقبها المتداول خادمًا لتلك النظرة القاصرة، فلا يمكن لفراشة الأدب العربي إلا أن تكون برَّاقة بالقدر الذي جعل فحول الأدب آنذاك يقعون في حبها واحدًا تلو الآخر.

وقد بدأت القصة بأخذ بُعدها الدرامي لدى بعض القُرَّاء،  فأخذوا في تلفيق ما يليق بها من صفات تجعلها تُكمل دورها كمعشوقة كسرت قلوبًا أحبَّتها بصدقٍ، بينما تعيش هي ترف الدلال الأُنثوي المُتغطرس. وبالطبع كان هناك من الحكايات ما يدعم تلك النظرة ويؤكدها، مثل: رسالتها إلى العقاد التي قالت له فيها: “لا تحسب أنني أتهمك بالغيرة من جبران، فإنه لم يرني ولعلَّه لن يراني؛ ولكن طبيعة الأنثى يلذ لها أن يتغاير فيها الرجال”.

وحجبت تلك النظرة عنَّا عالمها المُعذَّب، ومعاناتها في أيامها الأخيرة، فقد عانت زيادة الحُب كما عاناه عُشاقها؛ فعلى كثرة راغبيها إلا أنَّ قلبها ظل مُعلقًا بشاعر المَهجَر جبران خليل جبران، الذي كان يعيش آنذاك في نيويورك، ودامت بينهما المراسلات لمدة 19 عامًا، ولم يُكلَّل حبهما ولو بلقاءٍ واحد حتى مات جبران عام 1932، وظل الفصل الأخير من حياتها هو الجزء الأكثر سوداوية؛ فقد تعرضت لخسائر مُرة جعلت من حياتها جحيمًا، بدأت بوفاة والديها متتاليين في عامي 1928 و1932م، وجاء موت جبران ليكمل المأساة، فتدهورت حالتها الصحية ممَّا دفعها للعودة إلى ذويها بلبنان، ولكن جرت الأمور كما لم تتوقع؛ حيث أدخلها أقاربها مستشفى للأمراض العقلية وحجروا عليها لتجريدها من ممتلكاتها، وبعد أن أثبتت  زيادة صحتها العقلية بمعاونة الصحافة اللبنانية التي شنَّت هجمة قوية على ذويها لما اقترفوه بحقها من إهانة، عادت إلى القاهرة مرة أخرى، وتخلل الفترة التالية لهذا عدة أسفار متتالية إلى إنجلترا وإيطاليا رغبةً في التعافي، ولكن لم يفلح الأمر!

 فاستقرت أخيرًا في القاهرة مُعلنةً أنها في حالة نفسية سيئة وتحتاج لمن يساعدها، وظل الأمر كما هو حتى وافتها المنية عام ١٩٤١م في مستشفى المعادي بالقاهرة، بعد أن استسلمت و قاومت الاستجابة مع الأطباء واستعدت للموت!

وخلال سنواتها الخمسة والخمسين، تركت لنا زيادة ميراثًا أدبيًا عملاقًا في الشعر والرواية، والجدير بالذكر أنها أتقنت تسع لغات، من بينها الفرنسية والإنجليزية  واللاتينية، ممَّا جعل نتاجها المُترجَم لا يقل أهمية عن نتاجها العربي، ووضعت أول أعمالها (ديوان أزاهير حلم) باللغة الفرنسية تحت اسم مستعار(إيزيس كوبيا)، وبعد ذلك شرعت في وضع مؤلفاتها العربية مثل: باحثة البادية، ظلمات، أشعة، الصحائف، والرسائل.

ولم تنتهِ آفاقها الفنية عند الإبداع الأدبي، وإنما اهتمت بفنونٍ أخرى كالتصوير والموسيقى، كما كانت من أكثر الناشطات في مجال تحرير المرأة آنذاك؛ فقالت هدى شعراوي في تأبينها: “كانت مي المثل الأعلى للفتاة الشرقية الراقية المثقفة”. وهذا بالطبع بجانب جلستها الثقافية الشهيرة التي كانت تعقدها في منزلها ظهر كل ثلاثاء، حيث يجتمع نخبة من العلماء والشعراء والمفكرين للخوض في الأحاديث وإلقاء الأشعار والتباري فيما بينهم في فنون الأدب المختلفة، ومن أشهر رواد هذا المُلتقى الثقافي: أحمد لطفي السيد، مصطفى لطفي المنفلوطي، العقاد، أحمد شوقي، عبد العزيز فهمي، وإسماعيل صبري.

وظل هذا الجانب الإبداعي الثري شأنه شأن الجانب المأساوي من حياتها متواريًا تحت ثرى “قصة مي محبوبة أدباء عصرها”، ولم يتم النبش عنه في الأدب المعاصر إلا حديثًا في بعض الأعمال الروائية والسير الذاتية مثل كتاب (سجينة الشام) لدارينا  الجندي، وكتاب (مي زيادة.. حياتها وسيرتها وأدبها وأوراق لم تنشر) لخالد غازي، ولكن يظل أكثر تلك الأعمال انتشارًا هي رواية (ليالي إيزيس كوبيا: ثلاث مئة ليلة وليلة في جحيم العصفورية) لواسيني الأعرج.