قط على فراش الموت

Comments 0

هذا أنا وقد امتد بي العمر كي تتلاشى فروة جسدي، وتضيق عيني أكثر، وتتمدد التجاعيد فوق الوجنة المشمشية. ذيلي لم أعد أقدر على تحريكه، وأظفاري وهنت فلا تخربش من جديد، وصارت إيماءاتي وموءاتي قليلة شحيحة الصدى. سأحكي؛ فحتى وإن طال العمر أكون مرتاحًا، وإن قصر فأكون أهديت إلى نسل القطط السنورية بعض النصائح.

ولدتُ هرًّا في حارة لأب أسود اللون، وأم بيضاء تسكن البيوت المرموقة الشركسية، عكس الأب الذي لاذ بالفرار إلى نزوة أخرى فهو قد اجتلى أسرار الشوارع والقمامة، حيرانًا لا أعرف ما الذي أتى بالحياة إليّ في هذا البرد القارص، لكن هذا المزيج العنصري قد خلف بعض الاختلافات فيّ، وجدت نفسي في بيت كبير وسط مزرعة من القطط الأليفة، منهم الأبيض والمنقط والمقطقط بحق، ومنهم الأسود الذي خالطه البياض، تحت رعاية سيدة خمسينية وزوجها استعانوا بنا على الوحدة، أما أنا فقدماي سوداوان وجسدي أبيض مرصع بالمشمش، وسموني رفيق لأن أمي رفقت بحال أبي الهارب.

كنت أميل دومًا للوحدة، لكنني كنت خير جليس لكل أصدقائي القطط، مرح معهم نثير الضحك والمواء العالي، فكنت قد أدركت أنهم لا يد لهم بوحدتي كي لا أترفق معهم، الجميع كان يحبني وأنا كنت أمعن النظر فيهم وفي كل الأشياء، فجينات الشارع لن تفارق صاحبها حتى ولو كان على وثر نائم.

في حظيرة ربة البيت عديد القطط، وعديد الشخصيات أيضًا، فهذا منتصر أتى إلى الحياة يوم انتصر صاحب المنزل على أخيه وسلبه ثروته وسطوته، قد كان منتصر حاد الملامح، سريع الصوت، مبعثر الكلمات، لا يطيق أن يرى غيره في مكان أعلى منه في الطعام أو المنام، فكان كثير الصراعات والمشاكل يضرب هذا ويخنق ذاك، بهدف ومن دون هدف، إن تبسطت وانبسطت له كنت صديقه، إذا أردت الظهور فلا ظهور هنا إلا لمنتصر، كيف لا وهو الذكر الوحيد على كل إناث البطن التي جاء فيها، فهو منتصر على مسمى.

أما هذا فإباء، وكأن صاحب المنزل يضرب الاسم بالسحر فيصير صاحب الاسم على مسماه، فإباء دومًا ما يرفض، يلعن ويسب، يترك الطعام والفراش الدفيء في الشتاء لأنه غير راضٍ عن حاله، وغير مكترث لغيره، يريد فقط المكانة العليا ولكن ليس بطريق الانتصار ولا حتى بتقبيل ولعق يد صاحبة المنزل، يريد أن تنزل عليه النعمات وهو واقف يراقب خارج الحظيرة، يريد أن يكون حصانًا أو حتى كلبًا.

أما هذه فرحة تفرح بقدوم صاحبة المنزل فرحة الأبله.

وهذه حنان التي تمارس هوايتها المفضلة في لعق الجميع قطط أو بشر كي تحصل على الحنان بالطعام أو ببعض لمسات أو مواءات.

وعلى هذا المنوال كثير من معجزات صاحب المنزل في تسمية قططه، اندثرت أسماءٌ بعدما علا بأصواتها المدى، وخلدت أسماءٌ.. رضا وحب وجمال وإشراق وترنيم، تلك الأخيرة التي كانت تشدو الأشياء بصوتها، ورحيق ذات الشبق، ومسؤول صاحب الهمة.

كلٌّ تحت نفس السقف وكلهم يريد مبتغاه وما تحدثه به نفسه، وفي يوم من الأيام العاصفة، انهزم منتصر، وترجل إباء عن صهوة إباءه، وحزنت فرحة، وضاقت حنان بنفسها، خفت الرحيق،والترنيم، وارتشى المسؤول من قطة شيرازية، لم ينفع أحد ما كان يتغنى به ويرنو إليه، لم تنفعني جينات الشارع إلا الآن وأنا أسرد ما حواه عقل القط، اختلاف قدماي عن جسدي لم يغرس لي سنبلة ريحان، ولا وجنتاي رُسمت ووضعت في متحف المشمش الشهير للقطط المحلية، وها أنا ألفظ آخر أنفاسي على فراش الموت.. اليقين الأخير، وقد تيقنت أنه لم يكن لي عاصم من الوحدة وأنا الرفيق المترفق، فما بال الآخرين، كح كح كح آآه ميااااااو.