في عينيك.. بقعة عمياء!
عندما تقرأ هذا العنوان للوهلة الأولى، فربما يتبادر إلى ذهنك أنني سأتحدث عن بقعةٍ عمياء في تصرفاتنا أو سلوكنا النفسي، والذي يتأثر بدورة بمشاعرنا ويجعلنا لا نرى إلا ما نريد رؤيتَه أحيانًا! لكنني سأتحدث عن بقعةٍ عمياء حقيقية موجودة لدينا بالفعل، وليست كناية عن معنى آخر!
نحن نرى أشياءً كثيرة ومذهلة في حياتِنا يوميًا، ونحن على أتم ثقة أننا نراها كاملةً بلا جزء محجوب من هذه الصورة، فماذا إن أخبرتك الآن أن عينك بها نقطة عمياء، لا تستطيع الرؤية من خلالها، كأنها جرح أو ندبة إن صادف وانعكست عليها الأشعة الضوئية من شيءٍ أمامك، فلن تستطيع رؤية هذا الشيء!
لعلك تعجب من قول هذا، وقد تكون لا تصدق على الإطلاق فدعني أثبت لك صحة هذه المعلومة في هذا المقال، ثم أشرح لك التفسير.
النقطة العمياء أو The blind spot، هي نقطة في مجال رؤيتك لا تستطيع الإبصار من خلالها أو حجب في مجال الرؤية، ولابد أن نعرف أولًا معلومات عن تركيب الجزء المسؤول عن الرؤية في العين.
هو جزء الشبكية، وهي تتكون من أنواع مختلفة من الخلايا في طبقات متتالية يبلغ عددها عشر طبقات، وهي من داخل العين إلى خارجها أو من الأمام إلى الخلف هكذا:
1: غشاء داخلي محدود “Internal limiting membrane”
2: طبقة ألياف عصبية “nerve fiber layer”
3: طبقة الخلايا العقدية “خلايا جانجليونيّة” حيث تؤدي إلى تكوين خلايا العصب البصري. “Ganglion cell layer”
4: طبقة داخلية ضفيريّة الشكل “Inner plexiform layer”
5: الطبقة النووية الداخلية، وتحتوي على خلايا ذات قطبين “Inner nuclear layer”
6: طبقة خارجية ضفيريّة الشكل “Outer plexiform layer”
:7 طبقة نووية خارجية “Outer nuclear layer”:8″ غشاء خارجي محدود “Outer limiting layer”، وهو يفصل بين القطع الداخلية للأجزاء المستقبلة للضوء والخلايا النووية.
:9 طبقة مستقبلات ضوئية عبارة عن العصي والمخاريط rods and cones” Photoreceptors”
:10 نسيج طلائي صبغي للشبكية “Retinal pigmented epithelium”
عند دخول الضوء إلى العين، يمر خلال هذه الطبقات بالترتيب حتى يصل إلى الطبقة التاسعة “طبقة المستقبلات الضوئيةPhotoreceptor”، والتي بدورها تترجم هذه الأشعة الضوئية إلى إشارات تنتقل خلال العصب البصري إلى المخ، فيستطيع الشخص الرؤية.

طبقات الشبكية :-

لك أن تعرف أيضًا أنه لكي يمر العصب البصري ويخرج من العين ليصل للمخ، فإن مجموعة الألياف العصبية -وعددها حوالي مليون ومائتي ألف ليف عصبي- تنحدر وتمر من خلال فتحة واحدة بالشبكية بها فتحات صغيرة وكثيرة تشبه المنخل تسمي “lamina cribrosa”، لتتجمع وتكوّن عصبًا واحدًا يسير إلى المخ كما بالصورة، حيث تمثل الشبكية الطبقة الصفراء لتكمل كعصب خارج من العين.

حسنًا، أين النقطة العمياء إذًا؟!
لعلك لاحظت من الصورة خلو هذه المنطقة المحاطة بالدائرة الحمراء من الطبقات الأخرى للشبكية، فكيف لا تمثل عائقًا لنا في مجال الرؤية إذًا؟! فنحن نرى صورة واضحة وكاملة لكل شيء، فلماذا لا نرى نقطة سوداء في المنتصف؟ أو حتى نقطة فارغة في الصورة وكأنها اقتصت منها؟ هذه هي النقطة العمياء، والتي إذا سقطت عليها أشعة ضوئية لا تستطيع رؤيتها بأي شكل! أي أن النقطة العمياء هي تلك المنطقة بالشبكية، حيث خروج العصب البصري.
لعله يتبادر في ذهنك الآن أنك ترى كل شيء ولا يوجد أي دليل على هذا العبث، فما الذي يحدث؟! إليك الدليل أولًا ثم التفسير:
الدليل علي وجود النقطة العمياء:-
لتجرب بنفسك.. انظر لهذه الصورة ثم قم بغلق عينك اليسرى وانظر بالعين اليمنى على حرف L (أو العكس بغلق اليمنى والنظر باليسرى على حرف R). على أن تكون المسافة بين عينك والشاشة تساوي تقريبًا 25 سم -أي ثلاثة أضعاف المسافة بين الحرفين، حرك عينك تجاه الشاشة أو بعيدًا عنها حتى تلاحظ اختفاء الحرف الآخر.

هل لاحظت اختفاء الحرف الآخر بالفعل؟!
الإجابة هي نعم، في اللحظة التي اختفى فيها الحرف من أمام عينك كانت الأشعة الصادرة منه، والواقعة على عينك تصادف السقوط فوق النقطة العمياء من عينك!
إن لم ينجح معك هذا جرب مرة أخرى هنا:
اغلق عينك اليمنى بيدك، ثم اجعل عينك اليسرى أمام علامة (+)، ثم تحرك بالقرب وبالبعد عن الشاشة ببطء وأنت تثبت عينك على (+) حتى تلاحظ اختفاء النقطة.

موقع النقطة العمياء:
لا توجد هذه النقطة في مركز العين بالضبط، لكنها توجد إلى الجهة الأنفية من مركز العين، وتبدو لنا في مجال الرؤية في الجهة المعاكسة (الجهة الخارجية من مجال الرؤية لكل عين) كما لاحظت خلال إجراء التجربة السابقة.
إذًا ما التفسير؟ لماذا لا نرى هذه النقطة المحجوبة من مجال رؤيتنا خلال اليوم وفي حياتنا عامة؟!
توجد أسباب كثيرة لتفسير عدم رؤيتنا لها، وهي:
أننا نستطيع النظر بالعينين إلى نفس مجال الرؤية، وتقع هاتان النقطتان العمياوان في الجهات الخارجية لهذا المجال، لذا لا يتطابقان أبدًا، لذا فالصورة تظهر مكتملة لدينا لأننا نرى أجزاءها كاملة بالعينين معًا، ويقوم المخ بدمجهم سويًّا في صورة واحدة، فكل صورة تكمل الجزء المحجوب من الثانية.
سيتبادر إلى ذهنك سؤالٌ آخر هنا، لماذا لا نراها حتى إن نظرنا بعينٍ واحدة؟ وهو ما يفسره السبب الثالث.

الحركات العينية الدقيقة اللاإرادية أو ما يعرف بالـ “Microsaccadic movement of the eye”، وهي حركة سريعة جدًا وغير محسوسة، توجد في عين الإنسان وبعض الحيوانات، حيث أنه عند تثبيت النظر إلى شيء ما، تتحرك العين بصورة غير محسوسة، هذه الحركات الدقيقة جدًّا لتستطيع تغطية مجال الرؤية كاملًا، وتساعد العين أيضًا في التركيز على ما تنظر إليه.المعالجة العصبية للصور في الدماغ “neurological Processing of image by the brain”، والمسئول عنها أجزاءٌ عصبية كثيرة بالمخ، منها المنطقة البصرية بالفص الخلفي للمخ، ومنها أيضًا نواة تسمى النواة الركبية الخارجية “Lateral geniculate nucleus”، والتي تستقبل الإشارات القادمة من مجال الرؤية للعينين، وتقوم بالدمج بينهما “correlation” للحصول على صورة كاملة ثلاثية الأبعاد، وكأن لديك فوتوشوب داخلي ذا نظام تشغيل معقد يقوم بتعديل وتركيب الصور وملء المكان الناقص بما يعتقده هو، والدليل على ذلك أنك في الاختبار السابق كنت ترى شكل خلفية الصورة عندما تختفي الدائرة أو الحرف من مجال رؤيتك وكأنها صورة مكتملة!
فكعادتها أدمغتنا تتمتع بدقة عالية في أداء وظائفها أكثر مما قد نتصور نحن، ويتجلى فيها إبداع الخالق يومًا بعد يوم.