فيلم كفرناحوم .. ميلودراما السينما العربية وتصوير الواقع.
خلال ساعتين من الزمن تنقلُ أحداثُ الفيلم بشفافية بالغة في التعبير عن البؤس الاجتماعي الذي أصبح من الصعب غض النظر عنه داخل المجتمعات، ليست العربية وحسب بل المجتمعات الإنسانية على مستوى العالم، فإن الفقر ونقص الموارد الحياتية الأساسية أصبحا عامليْن بالغي القوة في التأثير على الحضارة الإنسانية، وفي محاولة من نادين لبكي المخرجة اللبنانية التي فاجأت الثقافة العربية مؤخرًا برائعته كفرناحوم لإسقاط الضوء على ذلك القطاع الهالك في المجتمع وسط سباق التسلح والصراعات العالمي.
يصور الفيلم حياةَ الطفل زين البائسة التي تقوده لرفع قضية دعائية على والديه لأنهما أنجباه، وأتيا به إلى هذه الدنيا!
تناولت نادين لبكي صورة واضحة عن حياة طفلٍ صغير يعاني من قسوة الحياة الاجتماعية المتدنية إنسانيًّا، بدون توفر أبسط الوسائل المعيشية، والتي تؤثر بدورها على حياة الأبوين اللذين يلجآن إلى القسوة للتنفيس عن واقع الحياة السيّء في معاملة طفلهما، مما دفع زين إلى الهرب إلى شوارع البلدة، يتجول في الطرقات باحثًا عن كل شيء.. عن الطعام، والغذاء، والأمان، والدفء، باحثًا عن أي شيءٍ يؤمّن له لحظاتٍ من الحياة في عالم الموت!
ويلتقي في طريق بحثه بالرضيع يونس الذي اعتقلت الشرطة اللبنانية أمَّهُ الإفريقية بسبب الإقامة غير الشرعية، ولا يجد زين حرجًا في رعاية يونس وحمله على خصرِه في الطرقات ومناولتِه الحليب وتغيير الحفاضات له، وجرِّه معه أينما ذهب في شوارع المدينة في إناءٍ معدني مثبت على عجلات.
وخلال الساعتين يعرض الفيلم الأوضاع الإنسانية المتدنية التي تعيشها جميع الشخصيات في الفيلم كنتيجة لغياب المساعدات البدائية للحياة اليومية البسيطة وانتشار الجوع والفقر، ويظهر ذلك من خلال التصوير الواضح فيه عدم تكلف الديكور أو حتى ملابس الممثلين.
ويلقي الضوء أيضًا على عمليات الإتجار بالبشر، وعدم الالتفات أو الاهتمام بأطفالٍ لا حول ولا قوة لهم في الطرقات القاسية!
وينجح فريق الفيلم في إيراد تلك المشاهد القاسية بمنتهى التلقائية والشفافية والوضوح، تؤكد من خلالها فكرة التهميش والتعايش مع البؤس اليومي، وكيف أنه أصبح جزءًا لا يتجزأ من حياة هؤلاء الأفراد، إلى حد أنهم أصبحوا لا ينفرون ولا يستغربون حالهم!
وتمكن فريق الفيلم من التقاط أكثر اللحظات الإنسانية التلقائية التي لا تمت بصلة للتمثيل؛ معتمدين على واقعية الأحداث بالنسبة لكل من الطفلين زين ويونس بطَلْي الفيلم.
والممثل الرئيسي الطفل زين هو الطفل السوري زين الرفيع مواليد العام 2004 في مدينة درعا السورية، والذي لا يحمل أوراقَ ثبوت على الأراضي اللبنانية،ويحيا نفس الواقع الذي يمثله في الفيلم، إلى حد أن نادين لبكي صرحت بأن معظم حوار الفيلم كان مرتَجلًا بعد دخول الطفل في الحالة التي لم تكن بعيدة عن الواقع الذي يعيشه.
أما عن يونس فهو في الواقع فتاة كينية الجنسية تدعى بولواتيف ترايجر بنقوله، و تعيش حاليًا مع أمها في كينيا، لكنها أدت دور الذكر في الفيلم!
بعد مرور سبعة أسابيع من عرض الفيلم في الشاشات اللبنانية تصدَّر خلالها شباك التذاكر، أعلن وزير الثقافة اللبنانيغطاس خوري ترشُّح الفيلم لتمثيل السينما اللبنانية في سباق مهرجان كـان لفيلم الأجنبي للعام 2019، وتستعد أسرة الفيلم حاليًا لعرض الفيلم في صالات السينما الأمريكية اعتبارًا من الرابع عشر من ديسمبر الجاري.
كما تعرضت نادين لبكي للانتقاد اللاذع بسبب اسم الفيلم كفرناحوم الذي هو اسم لقرية فلسطينية يسيطر عليها الكيان الصهيوني، واعتبر البعض اختيار اسم وموقع تصوير الفيلم إثباتًا لتهويد الأراضي الفلسطينية، واعتبره البعض سببًا مباشرًا لترشيح لجنة مهرجان كـان.
إلا أن لبكي دافعت عن الفيلم قائلة أن اسم الفيلم كان قد تم اختيارَه قبل البدء في التصوير، وأشارت إلى فلسطينية أرض كفرناحوم، والتي يقال لها أيضًاكَفرنَاحُوُم، وقالت أن اسم الفيلم له دلالة مهمة جدًا بالنسبة إليها وإلى القصة التي أرادت سردها من خلال الفيلم، وأضافت أن كلمة كفرناحوم تحمل معانٍ متعددة، وأنها مَدينة فلسطينية، وتعني بالفرنسية الفوضى والضجيج، وتستخدم لوصف الجحيم.
ودافع البعض عن اسم الفيلم؛ معبرين عن أن اسم القرية كفرناحوم ليس اسمًا إسرائيليًّا، وإنما هو اسم قرية فلسطينية تعود إلى أصول كنعانية، وتعود أصل الكلمة إلى اللغات الكنعانية والتي كانت تضم العبرية أيضًا.
مما لا شك فيه أن لبكي وفريق العمل قد أبدعوا في تصوير الفيلم بدايةً من الفكرة الرئيسية إلى الإخراج والتصوير، ويحضر في خاطري في هذه اللحظة اللوم الشديد عليها وعلى طاقم العمل، لأنني من أنصار فكرة عدم الإشارة إلى السوء في المجتمعات الإنسانية بل محاولة تغييره، وبالأمس القريب كنت من أنصار فكرة أن الأوضاع الإنسانية في العالم ليست حقًّا بهذا السوء الذي تصوّرُه السينما العربية في بعض الأحيان، إلا أن الطريقة التي جرت بها الأحداث في الأعوام الماضية، ومدى السوء الذي وصلت إليه الأوضاع الإنسانية في العالم -وبخاصةً أحوال المهاجرين والمشردين من أوطانهم والأطفال الذين أتوا إلى هذه الدنيا ليموتوا في رحلة اللجوء أو يعيشوا الموت في كل يوم- يجعلاني أتقبل وبشدة فكرة وطريقة عرض الفيلم؛ إذ إنه لو لم يكن دور السينما عرض وتوثيق الحقائق التي أصبحت أقصى مما تتحمله الإنسانية، فخير لها أن تنحدر وتخمد.