الجلاء والدستور

Comments 0


“إن مصر للمصريين أجمع، وعلى حامل اللواء أن يجدّ ويجتهد حتى ينصهر داخل العمل الوطني فلا تستطيع أن تقول إلا أنه جزء من الشعلة”

مصطفى كامل

هكذا خطط الراحل مصطفى كامل لإيقاظ الحث الوطني لدى الشعب المصري بعد فترة طويلة من اليأس والركود التي تبعت هزيمة الثورة العرابية، والتي كانت تُعطي للمصريين أملًا ولو ضئيلًا في مستقبل أفضل ينعم بالحريات، ثم اختُتمت تلك المرحلةباحتلال المستعمر الإنجليزي لمصر كَرَدِّة فعل فَرضت على المصريين أن ينتهجوا لأنفسهم منهجًا مختلفًا في التعامل مع الظروف التي تمر بها البلاد، حيث كانالاحتلال الإنجليزي من جهة، والفساد الداخلي المُتمكن من كافة الملفات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية من جهة أخرى.

بداية النضال الوطني في الأوساط الأوروبية

كان الراحل مصطفى كامل أول من عمل على وضع منهج تأصيلي لهذه المرحلة، حين دعا إلى تأسيس حركة وطنية رفعت منذ بدايتها شعار الاستقلال مُرفقًا بجلاء القوات الإنجليزية عن مصر.

وقد أُتيحت له فرصة التعبير عن القضية المصرية في القارة الأوروبية أثناء زيارته لفرنسا فى عام ١٨٩٤م، وهناك دافع عن حق مصر في الاستقلال منالاحتلال الإنجليزي مُستَنِدًا في ذلك على تاريخ مصر الجغرافي والحضاري، ساعيًا بشتى الطرق لكسب حلفاء يدعمون قضية مصر ضد الاحتلال.

وفى عام ١٨٩٥م، وجّه إلى مجلس النواب الفرنسي رسالة تذكارية صوّر من خلالها مصر وهي تعاني من بطش الاحتلال المفرط وهمجيته الواضحة، واستصرخ بها فرنسا لمساعدة مصر في الحصول على استقلالها، وقد أحدث ذلك دويًا عاليًا في أوساط المجتمعين المصري والفرنسي معًا، وفي نفس العام ألقى خطابًا وطنيًا اهتزت له مدينةتولوز، حيث وضَّح من خلاله القضية المصرية وحقها فى نيل حريتها واستقلالها.

الحراك على المستوى الداخلي 

وعلى المستوى الداخلي، لم يكن دوره أقل حظًا في التعبير عن قضية الوطن الكبرى، ففي عام ١٨٩٦م، ولدى عودته من فرنسا، اتجه إلى الإسكندرية وألقى بها خِطَابَه الذي عبَّرَ من خلاله عن موقفه الوطني، ووضَّح برنامجه في النضال الشعبي من أجل استقلال البلاد ومن أجل الجلاء، وهنا اصبح رمزًا وطنيًا يلتّف حوله جُل المصريين باختلاف اتجاهاتهم وميولهم. ثم فى عام ١٨٩٩م، أُصدرت جريدة المؤيد والتي تحولت إلى مدرسة وطنية تحمل فى طيَّاتِها شعار الدستور وتُطَالِب بحكومة وطنية خالصة، والتي دعا فيها بإنشاء مجلس نيابي حين قال:

“ليس للاحتلال مصلحة في إيجاد مجلس نيابي لهذه البلاد، ولكن صوت الأمة يعلو على صوته إذا تمسَّكت به ودعت إليه وجاهدت بقوة الرأي والفكر والثبات، التي هي أكبر خطوة في طريق الاستقلال”

تأسيس الحزب الوطني 

مصطفى كامل قبل وفاته بأيام

وفي خطبته الأخيرة من عام ١٩٠٧م، أعلن عن حدث عظيم تمثّل في تأسيس الحزب الوطني -كأول حزب وطني مصري يتكوّن من شباب المدارس العليا- والذي كان أهم أهدافه حينها هو جلاء الاحتلال الإنجليزي عن مصر، وبَثّ روح الوطنية في الشعب المصري، وإقامة دستور يكفل الرقابة البرلمانية على الحكومة، ويعمل على الإصلاح الداخلي بترقية الزراعة والصناعة والتجارة تمهيدًا لاستقلال الأمة علميًا واقتصاديًا.

وقد ظلَّ مصطفى كامل داعمًا ومؤيدًا للشعار الذي تستوّجِبُه المرحلة ومناضلًا من أجله بنفسه ورئاسته للحزب الوطني حتى توفي في عام ١٩٠٨م، وخلفه محمد فريد الذي لم يكن دوره أقل حظًا من صديقه وأستاذه مصطفى كامل.

العودة للنضال الخارجى على يد محمد فريد 

أظهر محمد فريد دورًا فعالًا تجاه القضية الوطنية التي كُلِّفَ بالدفاع عنها، والتي استَهَلَّهَا بخطبته في اجتماع باريس عام ١٩١٠م، والذي كان يحضره عدد من أعضاء مجلس شورى الدولة، والتي بيَّن فيها حالة مصر السياسية والإقتصادية والإجتماعية في ظلالاحتلال الإنجليزي، ودافع عن حق مصر في الجلاء والدستور، وقد كان لخطبته تلك وقع عظيم في نفوس السامعين لما احتوته من حقائق دامغة.

ثم في خطبته بمدينة ليون، والذي ألقى فيها بيان اعتداء الاحتلال على حقوق مصر، ثم تبعه مؤتمر الأمم المهضومة الحقوق بلندن، والذي ألقى به خطبة هامة أمام عدد وفير من الإنجليز، شرح فيها أعمال المُحتَلِّين في مصر، ومَطَالِب الوطنيين، ودحض التهم التي تفتريها الصحف الاستعمارية على بلاد النيل، فقال:

” إنني أوجّه كلامي إلى الأمة الإنجليزية ليس بصفتها محتلَّة، ولكن بصفتها أمة حرة، كما وجّهت كلامي إلى الأمة الفرنسية في الخطابات التي ألقيتها في باريس وليون. نحن لا نقبل أبدًا الاعتراف بالاحتلال الإنجليزي، فإننا نعتبره غير شرعي، كما نعتبره مؤسسًا على القوة الغشوم التي لا يجوز مطلقًا أن تكون أساسًا لحق من الحقوق، وإذا كان في استطاعة الحكومة الإنجليزية إعلان حمايتها على مصر، وضمها إلى ممتلكاتها، فإن مركزها في مصر سيظل غير شرعي”

وبذلك بيَّن أنَّ المُحتل الإنجليزي مهما كان يمتلك من القوة المادية أو المعنوية المؤثر بها على المجتمع الدولي فإن موقفه فى مصر سيظل موقفًا غير شرعي قائم على الإفتراء والقوة الغشوم.

وفي مؤتمر السلام في ستوكهولم عام ١٩١٠م، خطب خطبةً بليغةً قال في مقدمتها:

“توجد بلاد يطمع فيها الأقوياء بسبب ثروتها وحسن موقعها الجغرافي، وقد تمتعت مصر (وطني العزيز) بهاتين الميزتين، فأرضها خصبة، وهي واقعة بين ثلاث قارات، ولا جرم أن هذا الموقع ازداد شأنًا بعد فتح قناة السويس فى سنة ١٨٦٩م، ومنذ ذلك العهد وتسعى إنجلترا في تحقيق آمالها في الاستيلاء على مصر”

وبعد هذه الخطبة قرر المؤتمر إحالة المسألة المعروضة على لجنة المؤتمر اعترافًا بما لها من أهمية دولية، ثم صرَّح في نفس العام إلى جريدةالأوماتيتية الفرنسية بأن مصر الحاضرة سوف تحتَّج على محتليها.

وفي مؤتمر المجالس النيابيةببروسكل البلجيكية أعلن للعالم أجمع شعار المرحلة حين قال:

"إنَّنا نُريد أن نُدافع عن مطالبنا بالأوجه الشرعية، وهذه المطالب تنحصر في كلمتين: الجلاء والدستور"

ثم شرح حق مصر الطبيعي فيالاستقلال، وتَطَرَّق إلى مسألة الدستور وبيّن أنها تأتي في الصف الأول بعد مسألة الجلاء، وأنَّ من دونها لا يكون ثمَّت إصلاح حقيقي في البلاد، ويكون كل ما تناله الأمة دونها من قبيل ذر الرماد في العيون.

سعد زغلول يكمل المسار

ظلَّ محمد فريد يسير على الطريق الذي أقام بدايته مصطفى كامل، وشيَّد هو جزءًا كبيرًا من مساره، حتى خلفه الراحل سعد زغلول -أحد المُساهمين معه في إنشاء الجامعة المصرية- فسعى لتأسيس حزب الوفد المصري، الذي كان شعاره الأول هو الدفاع عن القضية المصرية ضد الاحتلال الإنجليزي، ثم العمل على الإصلاح الداخلي، وذلك عن طريق جمع التوقيعات من أصحاب الشأن لإثبات صفتهم التمثيلية، مما أدَّى إلى نفيه وجميع رفقائه.

وهنا اشتعلت أول ثورة شعبية بعد الحرب العالمية الأولى، آلت في النهاية إلى عزل الحاكم البريطاني، والإفراج عنه وعن جميع زملائه، ودعوته إلى مؤتمر الصلح في باريس لعرض قضية الاستقلال.

ثم ظلَّ سعد زغلول والوفديون مناصرون للشعار الذي حمل رايته في البداية مصطفى كامل ثم محمد فريد من بعده، حتى انتزعت مصر استقلالها بعد تصريح ٢٨ فبراير عام ١٩٢٢م، ليهبط شعار الجلاء والدستور ويرتفع شعارًا آخر يناسب تلك المرحلة الجديدة من تاريخ البلاد.

المراجع :-

المسألة الشرقية لمصطفى كامل
مصطفى كامل باعث الحركة الوطنية لعبد الرحمن الرافعى
محمد فريد رمز الإخلاص والتضحية لعبد الرحمن الرافعى

سعد زغلول زعيم الثورة للعقاد