الحتمية البيولوچية كما تسربت إلينا..
في كل أدبٍ عظيم فلسفة، وفي كل فلسفةٍ عظيمة أدب.
فقبل أن تخضع القضايا للمعامل والمختبرات كانت تحج في أفلاكِ خيالاتِ وإنتاجات الشعراء والأدباء والفلاسفة والفنانين، تعبرُعن رؤاهم الخاصة بذاتية أحيانًا وبموضوعية أحيانًا أخرى، فلم تكنْ مواقفُهم محايدةً من المشاكل الاجتماعية والسياسية، بل تناولتها بمختلفِ الطرق والوسائل وربما كانت باعثَها وصانعَها الأول.
فربما أتتنا الروايةُ أو اللوحة أو شاهدنا مسرحيةً أو فيلمًا تحمل بداخلها قضيةً قبل أن تأتيَ إلينا الأوراقُ العلمية وآراءُ العلماء.
فربما أتتنا الروايةُ أو اللوحة أو شاهدنا مسرحيةً أو فيلمًا تحمل بداخلها قضيةً قبل أن تأتيَ إلينا الأوراقُ العلمية وآراءُ العلماء.
_وللحتميةِ البيولوچية قصةٌ طويلة من الأدب والفنون والفلسفة قبل أن تصطبغَ بالأيدولوچيا العلمية..
”فالحتميةُ البيولوچية في تعريفٍ مبسَّط.. أن الإنسانَ محكومٌ بتركيبٍ وراثي معين لا مفرَّ منه“.
وكأنه آلةٌ تمت برمجتُها سابقًا ولا يملُكُ من الحرية ما يكفي للفرارِ من ذلك السجنِ الأبدي المتمثل في چيناتِه الموروثة، والأيدولوچيا هي الأفكارُ المهيمنة على المجتمعِ في وقتٍ معين.
ولو أمكننا أن نُرجِعَ أصلَ الحتمية إلى تحولِ المجتمع من الإقطاعي أو العظامي الأرستقراطي إلى البرجوازي، وانتقال السلطة من “الإله والكنيسة” إلى “الآلة والعلم”، وتحول أدوار البطولة من غائية المسعى إلى انهزامية الواقع.
فالمجتمع الإقطاعي كان مصطبغًا بأيدولوچية (النعمة الإلهية) فكانت الطبقاتُ الاجتماعية تأخذ مكانتَها نتيجة الحقِّ الإلهي الموروث، كما كان للمَلِك الحقُّ المطلَق في الحكمِ بُناءً على هذا الأساس والذي يتم إضفاؤه بالتحريم والإنعام فما إن يتم إضفاءُ إحدى النعمِ على مؤسسِ أسرةٍ ما حتى يكونَ ذلك (المحرك الأول) لضمان توريثِ تلك النعمة لباقي النسل شرطَ أن يكونوا شرعيين.
فالعَلاقات الاجتماعية الاستاتيكية الثابتة في تلك الفترة كانت تزداد قوتُها كلما ازدادت قوة كلمة الإله في الكنيسة بالقساوسة والرهبان، فالأرضُ قبل نيوتن وجاليليو كانت مركزَ الكون والإنسان محوره وغايته، وغايةُ الإنسانِ إرضاءُ الإله، ثم كفى به من متاعِ الحياة.
وكأن ذلك العصرَ بأكملِه يمكنُ رؤيتُه من خلالِ أحد المسرحيات الرومانسية، ففي بداية نشأتِها بعد حربِها الطويلة مع القساوسة والرهبان الذين حاربوا المسرحياتِ الوثنية في عهد الامبراطورية الرومانية، حتى لا يلبث أن يعودَ المسرحُ في أحضانِ الكنيسة مرةً أخرى بالمسرحيات الدينية والأخلاقية التي تمثل الطُّهرَ والبراءة والإيمان في جانب، والفجورَ والقسوة والوحشية في جانبٍ آخر والصراع بينهما عنيف، لتكونَ شرحًا لقصصِ الكتاب المقدس ومحورية الإنسان بطريقةٍ محببةٍ غرضُها الترفيهُ والتعلمُ أولًا، والكسب بعد ذلك.
ولو أخذنا الرومانسية في معناها من الفرنسية القديمة، فهي القصة الطويلة التي تمثل المجتمع العظامي (الأرستقراطي) كما تمثل المُثُلَ العليا والغرامَ العُذري الذي يشبه العِبادة، ليكُونَ الفذُّ شكسبير أعظمَ مَن يمثلُه في تصويرِ دخائلِ النفسِ الإنسانية بما تجيشُ به من عواطفَ وأهواء، ووضعَ أمامنا حوالي ألف شخصيةٍ لا تماثلُ منها الأخرى ويعالج نفسياتِها بطريقةٍ عملية وحوارٍ بديع في جو المسرحية وشِعرٍ بارع وخيالٍ مجنح.
فـ روميو وجوليت رمزان للحب الطاهر الطاغي الذي ينتصرُ على جميعِ العقبات حتى الموتِ نفسه، وكليوباترا هي تلك الأنثى التي تنهزمُ في ميدان الحرب أمام الغزاةِ الفاتحين، ثم تنتصرُ عليهم في ميدان القلوب بسلاح جمالِها وسحرِها! ببساطة؛ لأنهم بشر.
لتأتي الرومانسية الحديثة بما حملَتْه من سطحيةٍ واضحة في تصوير عواطف أبطالها، والمبالغة المضحكة في تصوير الدوافع التي تهيج العواطفَ كما في (هرناني) لڤيكتورهيجو، فالعم العجوز ابن الستين عامًا كان متيمًا بابنة أخيه التي لم تتجاوزْ العشرين عامًا، وينافسُه في حبها شابٌ هو فارسُ إسبانيا الأول وبطلُها المغوار.
فالرومانسية والرومانسية الحديثة كانت تحمل في داخلها مغزى وغاية من العذاب والتراچيديا، وهدفًا تدورُ حولَه وتسعى لتحقيقِه، واشتاق الناسُ إلى أن يحدثّهم الأدباء عن حياتِهم الواقعية بعيدًا عن تلك الكتابات التي وإن كانت في مسماها (رومانسي) تهدف إلى جمهورِ الطبقة العظامية الأرستقراطية، إلا أن مضمونَها كان مادةً إنسانية لجمهورِ فتْرَتِها وجمهورِ تاريخ البشرية جمعاء.
والشخصيات التي كانت تمثل خيبةَ الأمل الرومانسية تحولت في النزعة الواقعية والطبيعية التالية لها إلى يأسٍ واستسلام، واستحالت كلُّ السمات التراچيدية البطولية من اعتدادٍ بالذات وإيمانٍ بكمالِ طبيعة المرء الذاتية إلى استعدادٍ للمساومة، واستعدادٍ للحياة بلا هدف، والموت بغموض! وكان البطلُ فيها مهزومًا في دخيلة نفسِه حتى عندما يبلغ هدفَه الفعلي! بل وعند بلوغِه هذا الهدف بعينه في كثير من الأحيان يظل مهزومًا!
ومع تحرك الأدب إلى الواقعية والطبيعية، قد بدأت العلاقات الاجتماعية في التحرك من الاستاتيكية للديناميكية، وانتصر رأسُ المال النقدي على الأرستقراطية الإقطاعية وأصبح للأفراد الحرية في عدمِ الارتباط بأشخاصٍ معينة أو أماكنَ محددةٍ لعملهم، وبدأ نفوذُ الكنيسة في التراجع مع تضاؤل سطوةِ الإنسان على الكون عندما أدرك أن الأرض ليست مركزًا الكون، ومع كتابات عصورِ التنوير في حقوق وحريات الإنسان التي وَجدت صداها الذي يستطيع أن يقابلَ سلطة الكنيسة.
فبينما كانت أوروبا كلها تقبل على الأدب الواقعي، كان الأدباء في مأزق؛ حيث انقسم الجمهورُ إلى معسكريْن.. عالم الأرستقراطية المحافِظة والتي كانت قد بدأت تفقد مكانتَها إثر الثوراتِ السياسية من كتابات عصور التنوير، والثورة الصناعية وعصر الآلات وتحول المجتمع التجاري لصناعي وبدء ظهور الرأسمالية الحديثة، والمعسكر البرجوازي التقدمي الباحث عن الحرية، المضطهد أو على الأقل الذي لم يستولِ على السلطة بعد.
فكتاباتُهم الواقعية والطبيعية لم تكنْ مجردَ حديثٍ بلسان قُرّائهم، بل كانوا في الوقت نفسِه دعاتَهم ومعلميهم، واستعادوا شيئًا من تلك المكانة التي هي أشبهُ بمكانة الكاهن، والتي فقدها الكاتبُ منذُ أمدٍ بعيد، ولكن مع ذلك كنّا نراهم يدعون إلى أيدولوچياتٍ محددةٍ بدقة وجاهزةٍ إلى حدٍّ ما، وكانوا يفعلون ذلك دونَ أن يكونوا متعاطفين مع جمهورِهم.
فالغسالة چيرفيز في رواية (الخمارة) لإميل زولا تتمكن من أن تنتشلَ نفسَها من الفقر بجهودِها الذاتية المُضنية، وتصبحَ صاحبةَ عملٍ ناجح ،إلا أنها وقد جلست يومًا وذراعاها مغموستان في الغسيل القذر.. “حانية وجهها على حزم الملابس، ما لبثت أن استحوذ عليها نوعٌ من الاسترخاء… كما لو كانت ثملةً بهذا النتن البشري، فالتمعَت عيناها وهي تبتسم ابتسامةً مُبهَمة، وبدا كأن أولَ إحساسٍ لها بالكسل قد بزغ هنا، وهي مختنقة بالغسيل القذر الذي يلوث الهواء من حولها!”
ورواياتُ (إميل زولا) الطبيعية كانت تهدف لإظهار النتائج الحتمية لحقائق علمية معينة، فكما يقول في مقدمة رواياته:
”للوراثة قانونها، تمامًا مثل ما للجاذبية قانونها“.
وعندما رصّع رواياتِه عن أسرة روغون-ماكار بزخرفٍ علمي جاء به (لومبروزو) من آثارِ عصر الآلة بأنه يمكن التنبؤ بكل شيءٍ عند التعرفِ على شروطِه الأولية من النظرة الحتمية للكون، فكان يرى بأن الصفاتَ الجسدية الموروثة تحدد السجايا العقلية وكأن البيولوچيا هي القدر! فعند (لومبروزو) كان من الممكن أن يتمَّ اكتشافُ المجرمين عن طريق شكلِ رأسهم.
فكان من المؤلم أن يؤدي المذهب الطبيعي بجميع أربابِه إلى الدمار الخلقي والصحي، فكان هذا العالم -الطبيعي- يصور الطبيعةَ كما خلقها الله قبل أن تتأثرَ بالعوامل الخارجية من تقاليدَ وما تم سَنُّهُ من شرائع، بخلافِ المذهب الواقعي الذي هو الشيء الذي تحول إليه الشيء الطبيعي بما صنعه من عواملَ وتقاليدَ وسُنن، ففي الطبيعة كان تسجيلُ الحياة اليومية ملتزمًا بالصدق ومُبالَغًا فيه دون عمل حسابٍ للعواطفِ المكبوتة فكان يثيرُ الشهواتِ النائمة ويجعل أصحابَها أذلاءَ لها، يحاولون إشباعَها حتى يذوبوا في جحيمٍ لا يعرفُ الشرائع! حتى نرى (چول دي جونكور) قد مات في الأربعين من عمره بعد حياةٍ سائبة أكبَّ فيها على الخمرِ وتدخين الأفيون، وموباسان قد جن جنونُه بعد الأربعين بوقتٍ قصير، و(إميل زولا) كان لحدٍّ كبير رجلًا تَعِسًا معتلَّ الجسم مختلَّ الأعصاب جديرًا بالشفقة والرثاء.