الإنسان يبحث عن المعنى

“تعاني ثقافتنا عطشًا عظيمًا للمعنى، وللأشياء التي تربطنا بالعالم وبالآخرين، وبالأشياء التي تغذي الروح حقًّا”

برناديت ميرفي

كثيرًا ما يقع الإنسان في وهم الاعتقاد بأن المعاني التي تلقّنها طوال فترة نشأته –والتي تتمثل في الدراسة والعمل والزواج والإنجاب– هي وحدها التي تهم، وأنها مغزى وجوده واستمراره على قيد الحياة، لدرجة تدفعه إلى الانهماك من أجل تحقيق هذه الأشياء حتى تعميه عن عيش الحياة الحقيقية.

بالطبع لا أقصد التقليل من شأن التعليم والعمل والزواج، لأن الإنسان بحاجة ماسة لهذه الأشياء منذ بدء الخليقة، لكن المشكلة تكمن في عدم تأسيس علاقات حيّة وحقيقية بيننا وبين المتواجدين في حياتنا، وبيننا وبين ما نفعله.

“كل نفسٍ ذائقة الموت، وليست كل نفسٍ تذوق الحياة”

جلال الدين الرومي

بهذه الجملة البسيطة يوضح جلال الدين الرومي الفرق بين “أن تكون على قيد الحياة” وبين “أن تحيا بحق”؛ فكونك على قيد الحياة لا يعني بالضرورة أنك تعيش حياتك بشكل حقيقي، لاسيما عندما تصل حياتك إلى درجة من الروتينية تجعلك تفعل كل شيء فيها بحكم الواجب والعادة والتكرار فقط.

عندها تغترب عن ذاتك، لأن ما تفعله لا يمثلك ولا يعبر عنك، أو لم يعد يمثلك ويعبر عنك كما كان سابقًا.
فكل شيء مهما كان حيويًّا وجميلًا عندما يبدأ الإنسان في فعله بحكم العادة، فإنه يفقد رونقه وبريقه، ويفقد كل تأثير كان يملكه سابقًا في نفسك، لدرجة تفقده القدرة على استشعار جمال التفاصيل الصغيرة، وتفقده القدرة على تذوّق جماليات الحياة.


يقول الشاعر رياض الصالح حسين في هذا السياق:
«تذكَّروا وهم في قبورِهِم
ضوءَ القمر وخُضرَة المراعي
تذكَّروا أنهم لم يعيشوا كما ينبغي
لم ينتبهوا إلى الأصوات والألوان
تذكروا:
كم ضوءًا أغمضوا عيونهم كيلا يروه
كم زهرة لم يزرعوا
كم كلمة طيبة لم يقولوها
الموتى عرفوا
رُبَّما للمرة الأخيرة
كم هي لذيذة حياة الأحياء»

فأغلبية الأشخاص يغلب عليهم الحماس والحيوية عند بداية عملهم، لكنهم يغرقون مع الوقت في روتينية ونمطية أعاملهم لدرجة يشبهون عندها الآلات الخالية من أي روح مبادرة أو تغيير.

والأمر نفسه يتكرر بين الأزواج، الذين مهما كان حبهم مفعم بالحيوية والنشاط في بداية علاقتهم قد يغرقوا أيضًا في الروتين، وعندها تفقد علاقاتهم كل بريق حظت به في يوم من الأيام، ويفقدون التواصل الحقيقي والعميق الذي كان بينهم في السابق، ولا يبقى بينهم إلا الأحاديث العابرة والسطحية والخالية من أي حديث حقيقي يعبر عن كياناتهم وذواتهم.

ويحدث هذا وأكثر في أيًّا ما يفعله الإنسان وهو يعتقد في داخله أن مجرد فعله هو المعنى بدون أن يدرك أن المعنى الحقيقي يكمن في الكيفية التي يفعله بها الإنسان، والقيمة الحقيقية تكمن في إحساسه بأنه يرغب فعلًا بما يفعل، وأن ما يفعله يمثله ويعبر عن ذاته.

ولأن هذه الحقيقة لا تُلقن ولا يُسلط الضوء على أهميتها، ويُكتفى فقط بتسليط الضوء على أهمية فعل هذه الأشياء فحسب؛ فإن الإنسان غالبًا ما يقع في فخ الروتين، وفقدان إحساسه بأي معنى أو قيمة حقيقية لما يفعله.

“ما أجمله! ما أروعه! طيلة ثلاثين سنة فعلت كل شيء ونسيت مشاهدة الغروب”

واتانابي بطل الفيلم الياباني
Ikiru

 
بعد وفاة زوجته، انهمك “واتانابي” -رئيس قسم الشئون العامة- في عمله طيلة ثلاثين عامًا لدرجة أنه لم يأخذ يومًا واحدًا أجازة، لكنه كأغلب الموظفين أطبقت عليه البيروقراطية بفكيها، فما عاد يرى لعمله معنى غير الاستمرار فيه وحسب، ولم يعد يفكر في القيمة التي من الممكن أن يقدمها من خلال عمله.

يمضي يومه في ختم الأوراق التي توضع أمامه غير آبه بما يمكن أن يقدمه من خلال عمله، فنرى في بداية الفيلم مجموعة من النساء على مرأى ومسمع منه تأتي باقتراح لإنشاء متنزه ويرسهلم أحد الموظفين لقسم المتنزهات، وعندما يذهبون لقسم المتنزهات يرسلهم موظف آخر لقسم النظافة، وهكذا يتم إرسالهم من قسم لآخر إلى أن يدركوا أن لا أحد يلقي أهمية لطلبهم.

يظل بطلنا على حالته هذه إلى أن يفيق من غفلته على إصابته بسرطان المعدة، والذي سينهي حياته خلال ستة أشهر، عندها يبدأ بطلنا في السؤال عن معنى حياته، وهل عاشها حقًّا كما ينبغي؟

وعندها يصل إلى إجابة أنه لم يعش حياته كما ينبغي، نعم قضى 30 عامًا مثالية في عمله وأصبح رئيس قسم لكن بدون معنى يُذكر وبدون أي قيمة حقيقية قدمها من خلال عمله.

يصادف توقيت معرفته بمرضه استقالة إحدى الموظفات التي تعمل تحت رئاسته بسبب ضيقها من طبيعة عملها التي يغلب عليها الروتين، وتنتقل للعمل في صناعة الألعاب.

يتعجب من كونها مفعمة بالنشاط والحيوية بعدما بدأت في العمل في صناعة الألعاب، ويسعى لمعرفة سرها، لكنه يصدم من كونها لا تفعل شيء مختلف عما يفعله، تأكل وتعمل مثلها مثله، لكنها تضيف:
“بصنع الألعاب أشعر أني ألعب مع كل طفل في اليابان”
عندها يدرك أن السر ليس في القيام بالعمل، ولكن المعنى الكامن فيه، والقيمة التي يضيفها الإنسان من خلاله.

فيعود إلى عمله عازمًا على تكريس ما تبقى من حياته لتحقيق طلب النسوة اللاتي طالبن بإنشاء متنزه لهن ولأولادهن.
لكن مسعاه واجه العديد من العقبات البيروقراطية، واضطر للصبر والضغط والإلحاح لفترة طويلة على المسؤولين إلى أن وافقوا على بناء المتنزه.

ويصف أحد زملائه أهمية المتنزه بالنسبة لبطل الفيلم بقوله:“طريقة نظرته إلى الموقع كانت أشبه بنظرة الأب إلى ابنه المفضل”


وبعد إنشاء المتنزه بفترة قصيرة يموت “واتانابي” بسبب السرطان الذي وإن كان سبب موته إلا أنه أيضًا كان سبب في الحياة الحقيقية التي عاشها لفترة قصيرة قبل موته.
مات في ليلة باردة، كانت تتساقط فيها الثلوج، لكنه شوهد يتأرجح في المتنزه، تغمره السعادة وهو يغني:
“الحياة قصيرة
قعن في الحب يا فتيات
قبل أن تذبل زهرتكن
قبل أن تخمد ثورتكن
ليس هناك غد”

– لو عليّ الاستماع مرة أخرى إلى أنك فعلت هذا من أجل العائلة…
— فعلت ذلك لأجلي، أحببت ذلك، وكنت جيدًا في فعله، وكنت حقًّا…. كنت”حيًّا”

– حديث بين والتر وايت وزوجته من الحلقة الأخيرة من المسلسل الأميركي Breaking Bad


بعد مرات عديدة على مدار المسلسل ادعى فيها “والتر” أن انخراطه في صناعة مخدر “الميث” والتجارة فيه كانت لأجل أن يوفر مالًا لعائلته عندما يموت، اعترف أخيرًا قبل موته بالسبب الحقيقي لانخراطه في هذا العمل؛ وهو أنه وجد فيه معنى لحياته، وأنه -على حد قوله الحرفي- جعله يشعر “بالحياة” حتى وإن اتفقنا جمعيًا أن التجارة في المخدرات غير أخلاقية.

“والتر” قضى معظم حياته في فعل أشياء لا تعبر عنه، ولا تمثل قيمة بالنسبة له، ولا يجد فيها أي معنى، يدرس الكيمياء التي يعشقها لطلبة في المدرسة لا يحملون للكيمياء نفس التقدير الذي يحمله هو لها، مما يجعله يتساءل عن جدوى تدريسه شيئًا بهذه القيمة لمن لا يدركون قيمتها.

يعمل عملًا إضافيًّا في مغسلة يتلقى فيها أشكال عديدة من الإهانة فقط ليحصل على دخل إضافي يعينه هو وأسرته على العيش.

ينعكس حاله على شخصيته التي تبدأ المسلسل مضمحلة، لا حضور لها حتى وسط عائلته، كأنه غير مرأي بالنسبة لهم، فتجده مهمشًا في التجمعات العائلية التي يكون محورها نسيبه “هانك”.

ثم يحدث له ما حدث لـ “واتانابي” في فيلم Ikiru، يكتشف إصابته بالسرطان وأن أيامه في الدنيا أصبحت معدودة، عندها يدرك أنه لم يَحيَ حياته بالشكل الذي يشبهه ويعطي لحياته معنى، فيتجه إلى صناعة مخدر “الميث” والتجارة فيه.
عندها تبدأ شخصيته في الظهور، ويصبح لها حضورٌ طاغٍ في التجمعات العائلية التي كان نصيبه فيها سابقًا التهميش.

فالطريقة التي يفعل بها الإنسان ما يفعله، وما يحمله عمله من قيمة بالنسبة له، والمعنى الكامن فيه، كل هذا ينعكس على جميع نواحي حياته.

“من كل هذه الأشياء يبقى لنا المعنى”

ريلكه

رأينا في المثالين السابقين أنه بالرغم من اختلاف ظروفهم وأنماط حياتهم، فإنهم أفاقوا جميعًا على حقيقة أنهم يعيشون حياتهم بلا معنى حقيقي يمثل قيمة بالنسبة لهم، وقرروا جميعًا أن يجدوا واحدًا يعيشون من أجله ما تبقى من عمرهم.

وليس بالضرورة أن يكون المعنى الذي يعيش من أجله الإنسان كبيرًا وعظيمًا وواسع التأثير، لكن المهم أن يعبر عن ذاته ويشبهه، ويمثل قيمة بالنسبة له حتى وإن كان بسيطًا وعاديًا.

وفقط عند استشعار المعنى المتفرد الكامن في كل ما يفعله الإنسان، وفي كل خطوة يخطوها، يمكنه أن يحيا بشكل حقيقي، وتتجلى له جمال التفاصيل الصغيرة التي تذخر بها الحياة.

لذا، أعتقد أنه يجب على الإنسان أن يسأل نفسه باستمرار عن كل ما يفعله، صغيرًا وتافهًا كان أو كبيرًا ومُهمًّا، هل يفعله بحكم الواجب والعادة؟ أم لأنه يرغب حقًّا في ذلك، ويجد فيه معنى، ويمثل قيمة بالنسبة له؟

وكما اختصر الشاعر “ريلكه” الموضوع ببراعة
بأن ما يبقى لنا من كل ما نفعله أو نعيشه هو “المعنى”، وعندما نفقده نعاني من الاغتراب عن أنفسنا وعما نفعله، وتصبح علاقاتنا وأفعالنا ماسخة، لا روح فيها ولا حياة.