ما قل في مفهوم الثقافة والحضارة

تتميز العلوم الاجتماعية باقتراح المفاهيم، وتعريفها. من بين أكثر المفاهيم الرائجة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، مفهومين: مفهوم الثقافة؛ ومفهوم الحضارة. اللذان يعدان من بين المفاهيم “الثقيلة”، أي التي تحمل في ثناياها العديد من التأويلات، والتحديدات. وتعد أيضا من المفاهيم المعقدة، نظرًا لعدد التصورات /المفاهيم والآراء حولها. وفي الآني ذاته تعد من بين أكثر المفاهيم استعمالا في الحقل الدراسي والاجتماعي.

من بين المتفق عليه في العلوم الاجتماعية، عدم اتفاق على تحديد واحد للمفاهيم المتنازع عليها، وهذا شائع في العلوم الاجتماعية حسب رأي البعض، ومن بين تلك المفاهيم المتنازع عليها على سبيل المثال لا الحصر« مفاهيم كلاسيكية، مثل الحرية والعدالة والسلطة(…) أم مفاهيم معاصرة، مثل الهوية والإرهاب، والأمن،(…) »()

ومن خصائص المفاهيم في العلوم الاجتماعية، لا توضع اعتباطًا، كالكلمة، في الدال والمدلول عند فرديناند دي سوسير. بل هناك علاقة بين المفهوم ومسماه. ومن الجدير بالذكر في هذا، الإشارة إلى رأي القدامى، في الاصطلاح بشكل عام، حيث قالوا ما معناه، بأن المصطلحات مفاتيح العلوم.  ومن هنا تأتي أهمية المفاهيم في العلوم، بل حتى في الحياة المجتمع ولغتهم. فالتواضع على الاصطلاح هو من جعل التواصل ممكنا، أي على وزن ما ذهب إليه علماء وفقهاء اللغة القدامى -نظرية المواضعة حول نشأة اللغة- على أن اللغة مواضعة واتفاق بين جماعة.

 ان تفقه، والتعمق، والتوسع، في المفاهيم، واصطلاحات العلوم، هو شرط من الشروط المعرفة. أو لنقل إن المتخصص في مجال ما من مجالات المعرفة الإنسانية، هو بما معنى ما، على اطلاع ومعرفة بالجهاز المفاهيمي لذلك العلم. وفي هذا السياق يقول المفكر جميل صليبا (1902 – 1976) أن« تثبيت الاصطلاحات العلمية هو الحجر الأساسي في بناء العلم»()

ومما ينبغي الإشارة له، لكل حقل معرفي من المعرفة الإنسانية، جهازا مفاهيميا، يعتبر مفتاح خريطة ذلك الحقل. فمثلا علم الاجتماع، وعلم النفس، و الانثربولوجيا…إلخظ، لكل واحد منهم مجموعة من المفاهيم التي صكها علماء كل حقل، من خلال خلال مفاتيح اصطلاحها تتم دراسة الظواهر المتعلقة بهم. 

كما أنه يجذر الإشارة، إلى أن بعض الحقول المعرفية، خاصة في العلوم الاجتماعية، تتقاسم فيما بينها بعض المفاهيم، وتقترض من بعضها بعض، فقد يؤخذ حقل علم الاجتماع مفهوما من حقل الاقتصاد.. وهكذا دواليك.

بعد هذا التقديم يمكن طرح سؤال حول دلالة مفهوم الحضارة والثقافة على بعض المراجع في العلوم الاجتماعية.

معنى كلمة ثقافة وحضارة على مستوى اللغوي:

ثقافة.. ثقف:

لي كلمة ثقافة، مصدر في اللغة العربية، فمصدرها الثَّقْفُ، فعله ثَقِفَ، ومنه “ثقفت الشيء” أي تعلمته بسرعة، ومنه أيضا قلب ثقف أي سريع التعلم و الفهم”(). وفي “القاموس المحيط” لصاحبه الفيروز آبادي ، « ثقف(…)، ثقفا وثقفا وثقافة: صار حاذقا خفيفا فطنا»(). ويورد عزمي بشارة في مقال له بعنوان “عن المثقف و الثورة” مجموعة من التحديدات اللغوية والاصطلاحية لفعل ثقف، التي تحيل إلى معنى العلم والفطنة والذكاء () …إلخ. 

حضارة .. حضر: 

في “القاموس المحيط”، نجد جدر حضارة من حضر. وحضر.. حضورا وحضارة: ضد غاب؛ والحضر والحضرة والحاضرة والحضارَةُ، خلاف البادية.. والحضارة: الإقامة في الحضر()…والحاضر خلاف البادي().

إذا كان هذا هو مدلول اللغوي لكل من كلمة ثقافة، وحضارة على مستوى القاموس اللغوي، فما دلالة المفهومين على المستوى الاصطلاحي؟

الثقافة، الحضارة.. مفهوم المصطلح:

مفهوم الثقافة:

حظي، و لا يزال مفهوم الثقافة(بالفرنسية: Culture)  باهتمام كبير في العلوم الاجتماعية والإنسانية، نظرا لما لهذا المفهوم من دلالات تاريخية و فكرية. وقد أعطيت له في حقل العلوم الاجتماعية العديد من التعريفات التي تناولته من منظرو مدرسي ونظري معين، أي وفق نظرية من نظريات العلوم الاجتماعية ()

من بين التعريف التي يمكن استحضارها التعريف التالية:

تعريف عالم الاجتماع روبرت بيرستد: « إن الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يتألف من كل ما نفكر فيه، أو نقوم بعمله، أو نمتلكه كأعضاء في المجتمع »().

تعريف عالم الاجتماع أنتوني غدنز: « الثقافة تعني أسلوب الحياة الذي ينتهجه أعضاء مجتمع ما أو جماعات ما داخل المجتمع. وهي تشمل على هذا الأساس أسلوب ارتداء الملابس، وتقاليد الزواج، و أنماط الحياة العائلية، و أشكال العمل، و الاحتفالات الدينية، بالاضافة إلى وسائل الترفيه والترويح عن النفس»() .

تعريف المؤرخ فرنان بروديل: « أما لفظة ((كولتور)) ثقافة فتعني على العكس[أي على عكس الحضارة] المبادئ المعيارية والقيم والمثاليات المشتقة من كلمة الروح أو الذهن أو العقل »().

تعريف إيكه هولتكرانس: الثقافة هي« مجموع الفروض الإيديولوجية والسلوك المكتسب والسمات العقلية والاجتماعية والمادية التي تميز جماعة اجتماعية بشرية »() .

ويشير الطاهر لبيب أن ” تعريف الثقافة في المطلق غير ممكن”()، لكن إذا ما أردنا أن نجمل وجهة نظر علماء الإجتماع حول تعريف مفهوم الثقافة؛ ففي هذا السياق، ومن وجهة نظر سوسيولوجيا حسب غدن: يعنى بالثقافة كمفهوم هي: تلك الجوانب من الحياة الإنسانية، التي تكتسب بالتعلم لا بالوراثة، ومن خلالها يربط الناس أوشاج التواصل والتعاون. ويشير غدنز، إلى أن هناك اتجاه عام لدى الباحثين فيما تتكون منه أي ثقافة، فهي تتكون من “جوانب مضمرة” غير عيانية كالمعتقدات والأراء والقيم؛ هذه الأخيرة تمثل “المضمون الجوهري للثقافة”. ومن “جوانب عيانية” ملموسة كالأشياء والرموز، أوالتقانة التي تجسد هذا مضمون().

مفهوم الحضارة:

ما ينطبق على مفهوم الثقافة، من حيث إستحالة إعطاء تعريف شامل ومانع لمفهوم الثقافة، كذلك يستحيل إعطاء تصور واحد يسبر أغوار مفهوم الحضارة، فهناك العديد من التعاريف والتصورات حول مفهوم الحضارة.

من بين المفاهيم التي وقف عندها صاحب” المقدمة” ابن خلدون مفهوم الحضارة، وهو في التصور الخلدوني، الحضارة« إنما هي تفنن في الترف وإحكام الصنائع المستعملة في وجوهها ومذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش والأبنية، وسائر عوائد المنزل وأحواله، فلكل واحد منها صنائع في استجادته، والتأنق فيه، تختص به ويتلو بعضها بعضا، وتتكثر باختلاف ما تنزع إليه النفوس من الشهوات والملاذ والتنعم بأحوال الترف، وما تتلون به من العوائد، فصار طور الحضارة في الملك يتبع طور البداوة ضرورة لضرورة تبعية الرفه للملك» ().

واذا ما استحضرنا “معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع”()، فنجد أنه يورد العديد من التحديدات لمفهوم الحضارة من قبيل: 

– «الحضارة هي أنسنة الانسان في المجتمع» تصور أرنولد().

– الحضارة تدل «على حالة متطورة أو متقدمة من المجتمع الإنساني» معجم أكسفورد().

– في التصور التاريخي يدل مفهوم الحضارة على«المناطق العالمية التي اقترنت ببناء دول امبريالية وحدوث تحول ديني»().

ونجد عند صاحب “قصة الحضارة” ول وايريل ديورانت، أنه يعرف الحضارة على أنها ” نظام اجتماعي يعين الانسان على الزيادة  من انتاجه الثقافي”()، ويرى ديورانت أن الحضارة تتألف من أربعة عناصر يحددها في العناصر الآتية():

الموارد الاقتصادية؛ 

– النظم السياسية؛

– التقاليد الخلقية؛

– متابعة العلوم و الفنون؛ 

ويرى المؤرخ الفرنسي بروديل أن “لفظ حضارة إنما يعارض معارضة تامة لفظ همجية، وأن هناك شعوبا حضارية، كما أن هناك شعوبا أخرى متوحشة بدائية أو همجية، بل إن بعض هذه الشعوب المتوحشة ربما تتسم به من طبيعة طيبة، لم يُتفَق على تسميتها بالشعوب الحضارية ” ()

في خاتم هذا الموضوع، لا يمكن الختام إلا بتعريف ذائع الصيت، جعل من مفهوم حضارة وثقافة مفهوما واحد، وتعد مقاربة هذا التعريف من أكثرها ذيوعا في العلوم الاجتماعية، يتعلق الأمر بتعريف الأنثروبولوجي إنكليزي إدوارد بيرنت تايلور(1832 – 1917)، صاحب كتاب الثقافة البدائية عام 1871م؛ حيث جعل زوج الثقافة/ الحضارة هي  ذلك ” كل مركب يشتمل على المعرفة والمعتقدات، و الفنون و الأخلاق، و القانون و العرف، وغير ذلك من الإمكانيات أو العادات التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في المجتمع”().