الامتحانات: عندما تتحول الوسيلة إلى غاية!

لقد قضيت ما قضيت في التعليم، لا أذكر أن كتابًا تعليميًا أثر في مثلما فعل كتاب ابتعته من أحد الباعة كان يجلس على أحد الأرصفة، قرأته بإرادتي الحرة، ولم أمتحن فيه. رشحه لي معلمي الذي لا أذكر أن أحدًا من المعلمين كان أقرب منه إلى قلبي، وأكثر منه تأثيرًا في روحي وعقلي.. كنا نجلس بعد الدرس، نتبادل أطراف الحديث حول أمور حياتية وفلسفية وسياسية عامة.. أخذت منه في تلك الجلسات ما لم آخذه أثناء الدرس وكنت أنتظرها وأحبها وأستزيد منها. هكذا يكون تواصل الأجيال الذي لابد منه.. يد يمدها من يقف بقدمين ثابتتين لمن لا يزال يحبو، كي يمشي دون تخبط وتعثر.

لازلت أذكر الامتحان العملي لمادة (الجراحة) في السنة الثالثة في الجامعة، الكل يرتعد قلقًا وخوفًا، علينا إنجاز شيء ما في وقت نراه قصيرًا، بدت علينا علامات الجدية والقلق والخوف، كان هذا مبررًا، إنه يوم الامتحان، والإخفاق هذه المرة يعني الكثير، حتى لو كنت أديت هذا ألف مرة من قبل، لكن ما لم يكن مبررًا ولا أعرف سببًا منطقيًا له حتى الآن، لم كان أستاذي أثناء الامتحان مقطبًا عابسًا في وجوهنا؟، رغم أنه ليس مطالبا بأداء الامتحان معنا! لماذا عاملنا بكل هذا الجفاء؟ لماذا لم يكن لطيفًا ويخفف حدة توترنا؟!

مشهد آخر لم أنسه أبدًا، وكان أكثر دراماتيكية، ربما لأنه كان في لجنة امتحانات الثانوية العامة، وتحديدًا في امتحان مادة (الفيزياء)، زميلي الذي كان يجلس على مقربة مني، ظل طيلة ساعة ونصف، ما يقرب من نصف وقت الامتحان، ينظر للورقة دون أن يكتب حرفًا، فقط وجهه محمر، يبكي ويرتعش!.

لم يكن الموقف الغريب الوحيد في امتحان تلك المادة، زميل آخر في لجنة أخرى مجاورة، ما إن رأى ورقة الامتحان ونظر للأسئلة حتى اهتاج ، واعتلته مجموعة من التشنجات، فمزق أوراق الأسئلة والإجابة، وخرج من اللجنة مسرعًا، كأنه يهرب من شيء ما!

لقد تربى أستاذي وتربينا على إكبار يوم الامتحان إكبارًا وتقديسه تقديسًا.. أيام الامتحانات هي الأهم من بين أيام السنة الدراسية، ترتبط بها قلوب الأهل وعقول الأبناء.. تتعلق بها الأقدار، وتتحدد بها المصائر.. لذا فمشاهد البكاء قبل وبعد وأثناء الامتحان باتت طبيعية.. وحالة الاكتئاب التي تصاحب الطلبة أثناء تلك الفترة صارت مؤكدة .. وتتطور أحيانا إلى رغبة في الانتحار والتخلص تمامًا من الحياة خوفًا من الامتحان!.

لست مسئولًا عن التعليم في مصر، ولست ولي أمر طالب أحمل همومه فوق كتفي، لكني دخلت تلك المفرمة، وعشت ويلاتها طيلة سبعة عشر عامًا ولا تزال شظاياها عالقة بي، لقد قضيت ما قضيت من سنين في التعليم، لم أحلم بشئ قدر ما حلمت بأن تنسف الامتحانات نسفًا، على الأقل لطلاب السنوات الدنيا، لا أعرف ما الذي يعنيه أن يمتحن طالب في الصف الثالث الابتدائي، وما الذي نجنيه من وراء ذلك؟ ماذا يعني أن نعد امتحانًا لطالب في الصف السادس الابتدائي ونسميه امتحان الشهادة الابتدائية ونحضر مراقبين للطلبة من غير مدرستهم؟ أن نصنف الطلاب بناء على نتائج الامتحانات تلقائيًا ربما من الصف الأول الابتدائي إلى طالب محدود القدرات وآخر متفوق عبقري زمانه والأزمنة كلها!

إن أقل ما يمكن قوله عن نظامنا التعليمي الحالي إنه عدو للتفكير والتأمل، قاتل للابتكار والنشاط، مبدد للطاقات والقدرات.. يجعل الطالب منذ تركه الرضاعة في صراع كل ثانية وكل لحظة خوفًا واتقاء ليوم الامتحان، وانتظار وتأهب النتائج والدرجات.. فلنجد نظامًا غيره إذن، يكون فيه الامتحان جزءًا من عملية التقييم وليس كلًا.. نظام يغرس في وعي الطالب منذ الصغر أنه يذهب للمدرسة للمعرفة لا للامتحان.. نظام يحرر الطالب فيبدع ، ويكون حسن التصرف، معتمدًا على ذاته، يقدر على حل المشكلات لا حل المسائل والأسئلة فقط، أن يحوز العلم والمعرفة وليس النتائج والدرجات فقط، نظام يرقى بالمعلم بعيدًا عن دونية الحفظ والتلقين إلى حيث مكانته المقدسة مؤدبًا ومثقفًا وآخذًا بيد أبنائه الطلاب نحو قدرة على القراءة المثمرة والمناقشة الفعالة والتحليل المنطقي والنقد البناء والبحث المبني على أسس علمية.. ويكون لدى الطالب فوق ذلك كله أوقاتًا كثيرة يقضيها في اللعب والراحة.. نظام نخرج منه قادرين على وضع أنفسنا حيث نحب و نميل، حيث نستحق، وحيث نعد أنفسنا ونفهم ذواتنا طيلة سنوات التعليم، لا حسب ما نكتال من الدرجات. أن يعكف المعلم على تأديب الطالب وتوعيته وتعريفه بالعلوم والآداب والفنون المختلفة.. أن يصحبه في رحلة هدفها اكتشاف ذاته ومحيطه وتاريخه، واستشراف مستقبله، أن يعرف زملاءه ويعرف الاختلاف ويعيشه ويؤمن به، ويحبه! بذرة توضع بيد المعلم، فتنبت وعيًا وإنجازًا وتقدمًا.

في كتابه [ مستقبل الثقافة في مصر ] الذي صدر عن دار المعارف عام ١٩٣٨ م، يرى الدكتور (طه حسين) أن ” مشكلة الامتحان أصبحت خطرًا على التعليم وعلى الأخلاق وعلى السياسة” ، لم يتغير نظام الامتحانات كثيرًا في زماننا عنه في الزمان الذي كتب فيه عميد الأدب العربي تلك الكلمات.. يرى طه حسين أن الامتحانات بنظامها المتبع في مصر باتت خطرًا على التعليم؛ لأنها جعلت من نفسها غاية لا وسيلة، ومن التعليم وسيلة لا غاية، فإذا كان الامتحان هو الأهم فلم لا يترك الطالب المذاكرة ويهمل الدرس طيلة العام؟ طالما كان هناك أمل في أن يحصد ما يجب حصده ويذاكر المنهج المطلوب في أيام معدودات قبيل الامتحان، أو أن يذهب إلى من يدس له السم في العسل، فيعطيه تلخيصات، أو يدله على أجزاء باعتبارها أهم من غيرها، أو يحدد مجموعة من الأسئلة يركز الطالب اهتمامه عليها دون غيرها إن أراد النجاح.. لذا فهي تفسد التعليم، تجعله خاويًا من مكمونه ومضمونه.. وتفسد معه العقل أيضًا؛ لأنها تجعل الطالب يفهم طبيعة الأمور فهما معكوسًا مغلوطًا يجعل السخيف مقدرا والعظيم تافها، فكيف بشاب تربى على فهم الأمور على هذا النحو أن يفهم الحياة فهمًا صحيحًا سويًا يخلو من اعوجاج وانحراف؟.. بل أنها تهدد النظام الاجتماعي ذاته، لأنها إذا كانت الوسيلة الوحيدة للترقي الاجتماعي لبعض الفئات في المجتمع أو لنيل مكانة اجتماعية مقدرة، فالجميع إذن في صراع، وليستمت الطالب  في الحصول على الدرجات واجتياز الامتحانات بأي شكل كان وبأي وسيلة كانت، حتى لو بالغش وهو قطعًا وسيلة غير أخلاقية، وبذلك تفسد الأخلاق هي الأخرى، أما عن ارتباطها بالسياسة فلأنه لا يفوت الحكومات في مجتماعتنا النظر إلى مواسم الامتحانات باعتبارها غنيمة سياسية لابد من الانقضاض عليها، فيتحول الهدف من الاختبار والتقييم وإجازة انتقال الطلاب من مرحلة إلى أخرى بعد التأكد من امتلاكهم مهارات وقدرات وإمكانات معينة، إلى إرضاء الناس إرضاءًا ديماجوجيا، سواء بالتلاعب في صعوبة وسهولة الامتحانات أو بإنجاح نسبة أكبر أو أقل من الطلاب.

إذا يرى الدكتور طه حسين أن الامتحانات إذا كانت شر لا بد منه، فمن التعقل إذن أن نتخفف منها ما استطعنا ولا نتزيد فيها.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي المنصة