سلفادور دالي و السيريالية
سلفادور دالي، أشهر السرياليين، بل يعتبره الكثيرون أشهر فنان في الدنيا على الإطلاق في القرن العشرين. اسمه بالكامل: سلفادور فيليب باسنتو دالي. قالوا عنه أنه ” أعقل مجنون “، لوحاته وأفعاله وسلوكياته تتسم بالغرابة، فكان يفتتح معارضه بتحطيم زجاج النافذة والدخول منها بدلاً من الباب، أو ينقض على كبار المدعويين والضيوف ويخرج مقصاً من جيبه ليقص أربطة عنقهم ( كرفاتاتهم ) … وغيرها من هذه الأفعال الجريئة الطريفة.
أعاد دالي إلى الأذهان ذكرى عباقرة التاريخ العظام الذين تعددت مواهبهم فأجادوا كثيراً من أصناف العطاء الإبداعي والفكر الإنساني، فنجد أن سلفادور دالي لم يقتصر نشاطه على فن الرسم، بل تعداه إلى النحت والشعر وتصميم الديكور والأزياء وكتابة سيناريوهات السينما وتأليف الكتب في الفن والفلسفة، ومن أهم مؤلفاته تلك:” حياة سلفادور دالي الخفية” و” الوحدة المختلفة” و” سلفادور دالي في الفن الحديث” وغيرها. كما أن كتاباته وتوضيحاته المتفرقة عن السريالية لم تنقطع في يوم من الأيام.


وكان دالي وبيكاسو قمتين عملاقتين تزهو بهما إسبانيا طوال القرن العشرين، فقد رحل بيكاسو عام 1973 بعد أن ظل يقيم الدنيا ويقعدها بنزعاته وشطحاته الفنية في عالم الفن المعاصر، وبقى دالي من بعده محط الأنظار، ولكنه كان في خريف عمره وقد بدأ يعاني الوهن والآلام النفسية الرهيبة، إلا أنه لم يستسلم أبداً لهذه الآلام المبرحة فكانت كلماته الشهيرة التي يرددها دائماً:” العباقرة لا يموتون، وليس لهم الحق في أن يموتوا… لذلك لن أموت”.
وقد قال هذه العبارة للمرة الأخيرة بعد أن انتهى من الإشراف على إعداد مقبرته بنفسه في مدينة ” فيجويراس” مسقط رأسه في إسبانيا؛ داخل المتحف الذي أقامته له الحكومة الإسبانية وحشدت به المئات من أشهر لوحاته ورسومه ومنحوتاته.
كيف نشأت السريالية؟
نستعرض اليوم قصة السيريالية العالمية في سهولة وتبسيط لا يتعالى على مفاهيم الغالبية العظمى ولا ينأى بنا إلى متاهات التعقيدات الفلسفية والتعبيرات الفنية المتخصصة.
لابد لنا لكي نتفهم السيريالية أن نعود للوراء سنوات عديدة لنلقي نظرة خاطفة على الحرب العالمية الأولى؛ لقد عاشت أوروبا قبلها في أحلى وأمتع أيامها وأكثرها استمتاعاً بالمال والجمال والرخاء، إلى أن اكفهرت الأجواء السياسية وجثمت الحرب في عام 1914 على صدور الأوربيين كشبح رهيب ينشر الرعب والدمار.
ويحطم حضارة الآباء والأجداد وينثر الموت والفقر والضياع في كل الأرجاء. وتسرب اليأس الكامل والعقد النفسية في نفوس المفكرين، وازدادت حدته في وجدان الفنانين فأبرزوا هذه الكآبة التي انتابتهم على هيئة تعبير مأساوي كزفرات الألم وأنين الجرحى، وأخذوا يحطمون كل إحساس بالجمال المفقود…
فلا وقت للحب ولا مجال للاستمتاع بالفن والتغني بالجمال، وظهرت نزعات العبث واللامعقول والهوس واللاشيئية. واختاروا لحركتهم هذه اسماً أكثر غرابة هو:” الدادية ” “DADA” ، وكان ذلك في عام 1916 ، وكان شعار الدادية:” كل شيء يساوي لا شيء، إذن فالاشيء هو كل شيء”.
وكلما جن جنون الحرب وانطلقت مسعورة تلتهم بني البشر وتدك ما شيدوه من القيم والصروح، عمد الداديون إلى خلق فن ينقض الفن ليناظر الخراب والدمار، واطلقوا على فنهم “ ANTI-ART “. أما لماذا اختاروا اسم دادا؛ فكان ذلك أيضاً من نوع العبث، فقد اجتمع الفنانون والكتاب والشعراء الثائرون ذات ليلة من ليالي فبراير الباردة عام 1916 في مقهى من مقاهي زيورخ في سويسرا وطاب لهم أن يختاروا اسماً لحركتهم، فدفعوا بشريط من الورق في قاموس ” لاروس” وفتحوا القاموس ووجدوا أن طرف الشريط يشير إلى كلمة “DADA” وهي كلمة يستعملها الأطفال الفرنسيون في الإشارة إلى لعبة خشبية على هيئة حصان، فاطلقوا هذا الاسم على حركتهم.
كانت نوعية الفن التي تقدمها الدادية تقدم كل ما هو غريب ومثير وشاذ، فمثلاً كانت لوحاتهم وتماثيلهم تتألف من بعض النفايات والخرق البالية وشظايا الأخشاب وبعض الخيوط، ولا بأس في أن يجمعوا داخل الإطار بعض الحشرات والعظام وكل ما يخطر على البال، ثم يعلقون لوحاتهم وينصبون تماثيلهم ويجهزون مسارحهم ويطبعون كتاباتهم ثم يقدمونها على الملأ في وقار مصطنع على أنها آيات من الفن الرفيع. وقد انتشرت هذه الحركة في أنحاء أوروبا خصوصاً في سويسرا وألمانيا وفرنسا.
وبالرغم من أن الحرب قد انتهت عام 1919 فقد بلغت الدادية أوجها في معرضها الشهير الذي أقيم في باريس عام 1920 ، وتوالت معارضهم حتى عام 1922 .
حتى جاء عام 1924 وهو العام الذي ظهرت فيه السيريالية كحركة فكرية دخلت تاريخ الفن. والسريالية حركة تجمع بين تمرد الدادية على حدود المنطق، وبين الاهتمام بأسرار العقل الباطن والأحلام والعمل على الكشف عنها.
التحليل النفسي والسيريالية:
* كانت نظريات العالم الشهير ” سيجموند فرويد” وطريقته في التحليل النفسي قد ذاع صيتها، إنها ببساطة شديدة تركز أساساً على الأحلام، فيرى فرويد أن الحلم الذي يراه النائم ليس مجرد صور لأحداث متداخلة لا يحكمها منطق، ولكنه في واقع الأمر رموز حقيقية لحياة الإنسان وسلوكياته ونفسيته في ماضيه وحاضره ومستقبله، ويمكن عن طريق تحليل الأحلام الوصول إلى العقد النفسية التي تتحكم في سلوك البشر. وقد قامت مؤسسات علاجية تعني بهذا التحليل النفسي وتتخذ من الأحلام ميداناً لأبحاثها وتشخيص الحالات النفسية.
وكانت الحرب قد أنهكت وجدان وروح الفنانين، فوجدوا في نظرية فرويد وعالم الأحلام متنفساً لشطحاتهم الإبداعية حيث لا حدود للتصور والخيال ولا مقاييس تحد من انطلاقة الرؤى إلى عوالم غيبة اللاشعور في غيبته من الوعي والمنطق .
وهكذا نرى أن السيريالية كما جاء في بيانها الأول الذي صدر عام 1924 تتلخص في التعبير عن خواطر النفس في مجراها الحقيقي بعيداً عن كل رقابة يفرضها العقل، ثم الإيمان بسلطان الأحلام المطلق، والعمل على إحلال هذا المذهب مكان كل مذهب آخر في حل مشكلات الحياة.
يمكن هنا معرفة السبب الذي جعلنا نتناول المدرسة الدادية أولاً، حيث اشتركت السيريالية معها في نظراتها المأساوية المتشائمة، وحيث اعتنق الفنانون السيريالية هروباً من الواقع المؤلم للحقيقة التي عانوا منها في سنوات الحرب، ولجوءاً إلى عالم الأحلام بعيداً عن الحقيقة المرة! وهذا ما يفسر المعنى (المعنى الحرفي) لكلمة السيريالية المشتقة من الفرنسية “Surréalisme ” أنه ” ما وراء الحقيقة أو ما فوق الواقع”.
وقد اكتشف “فرويد” أن للأحلام نزعة نحو “الارتداد” أو بعبارة أخرى: عودة إلى ماضي بعيد وإلى الطفولة المبكرة ، فالتفكير الحالم هو نمط للتفكير البدائي السابق على المنطق في المراحل الأولى للثقافة البشرية، ويجمع كثير من العلماء على أن الأحلام قد تكون مفككة ينقصها الترابط، ولا يمكن تفسيرها إلا بالكشف عن حلقة مفقودة (رغبة مكبوتة أو تجربة لم يفصح عنها).
وهنا إذا تناول الفن عالم الأحلام فإنه يسجل وثبة الخيال النامي في اللاوعي و يضعه في وضعه الجمالي ، ثم يأتي دور النقاد و المتذوقين في التفسير و تقييم الجمال الفني.

ولا يهم بالضرورة أن نجد تفسيراً لكل عمل فني، بل إن الفنان نفسه أحياناً يعجز عن تفسير إبداعه، لأن الأمر لو كان بهذه البساطة لعبر الفنان عما يقصد بكلمة أو جملة… فالعمل السريالي كما قلنا بعيد عن المسالك المنطقية. والفنان في الغالب أيضاً لا يحتاج لهذا التفسير؛ فيكفيه التجربة الفنية التلقائية الصادقة التي تحقق له ضرورة وجوده الفني وقدرته على التفاعل والتعبير، لأن تفسير مثل هذه الأعمال يهبط بها إلى الماديات في أبسط أشكالها ويجردها عن التعبير التلقائي المتحرر من قيود الوعي.
ويرى علماء الجمال وفلاسفة الفن أن التصور والرموز والأساطير ليست ابتداعاً غير مسئول للنفس، إنما هي تحقق ضرورة وتؤدي وظيفة تكشف عن أدق ما تنطوي عليه السريرة الإنسانية من غموض وأسرار.
الأسلوب الفني لسلفادور دالي وإسهاماته في عالم السريالية:
كما رأينا فالسريالية ذات مضامين وذات موضوعات تُشكل بأي أسلوب يجيده الفنان، فرأينا سلفادور دالي يصور أحلامه بأسلوب غارق في التقنية المتأنية ولا تفوته التفاصيل المدروسة جيداً، بل أدق التفاصيل. ويعتبر دالي أشهر السرياليين جميعاً، ويعود الفضل لهذه الشهرة إلى براعته وموهبته.
ولكن الفضل الأكبر يعود إلى بهلوانياته الفذة العجيبة التي تبهر الأنظار والأسماع أينما ذهب، منها مثلاً طريقة قصة شاربه العجيبة، بل ومازالت حتى الآن تجذب الأنظار، وأبسط مثال هو المسلسل الإسباني الشهير “LA CASA DE PAPEL” الذي يأخذ من وجه دالي وشاربه أيقونته التي لاقت رواجاً كبيراً في العالم كله.
وقد ابتدع دالي نظريته الشهيرة التي سماها ” البارانويا النقدية “، والبارانويا هي نوع من الهلوسة تبعث من يصاب بها على أن ينسب إلى الأحداث والظواهر ما ليس له وجود في الواقع، إلا أننا جميعاً قد نستشعر هذا التصور في حياتنا اليومية البسيطة: كأن يرى مثلاً المُحب محبوبته في كل فتاة تقع عليها عينه، وكأن يذهب أحدنا إلى المكان لأول مرة ولكنه يؤكد ويجزم أنه رأى هذا المكان من قبل… وغير ذلك من التخيلات.
وهذا النوع من تفسير الظواهر والغوص في اللاشعور هو الأساس الذي اتخذه سلفادور دالي في التعبير الفني، وخلف لنا إبداعاً عالمياً خالداً يجسد هذه التصورات والأحلام ( أو البارانويا) أثبت فيها بكل الثقة والعبقرية وبراعة الأداء التكتيكي أن الساعات المعدنية إذا وضعت على حافة جدار فلابد أن تتدلى كأقراص العجين، وأن أجمل مكان لوضع غرف النوم هو بلا جدال عند مشارف الصحراء الموحشة، وأن دقات الناقوس الكبير في الأبراج العالية لا يمكن أن يكون مصدرها غير مغنية تغني وترقص، وأن أذرع الرجل إذا اشتدت وامتدت فإنها تقبض على السحابة المستديرة، وأن الإنسان لو أصابته نوبة هيستيرية وجلجل ضاحكاً كاشفاً عن أضراسه المفترسة فلابد أن تتصدع الأرض وتتهتك أستار السماء.

ومنذ أن ابتدع دالي نظريته هذه في البارانويا انتهجها الآلاف من فناني العالم وأخذوا يحللونها ويشبعونها، ولاقت قبولاً واسعاً من جمهور الفن المتخصصين والعاديين.
ظلت أعمال دالي تنافس أعمال بيكاسو؛ كل له طريقته السحرية المميزة متنافسين على عرش الأضواء والشهرة، إلا أن دالي ضرب بنفسه مثلاً للخروج عن حدود اللباقة والسلوك الوقور، فكان يأتي بحركات بهلوانية أو أعمال مجنونة فمثلاً في معرضه السريالي عام 1939 في لندن حضر حفل الافتتاح بملابس الغوص تحت الماء، وفي معرض آخر لف حول وجهه وشاربه ثعباناً صغيراً أثار بمنظره الحضور.
وأصبح بعدها حديث الصحافة والإعلام مركزة على هذه التصرفات الشاذة. ولكن ليس بهذه التصرفات وحدها بلغ قمة المجد الفني والشهرة العالمية؛ فقد بلغت قدرته وألوانه وتشكيلاته الفذة حد الإعجاز البشري بمهارة تكنيكية وإتقاناً للتفاصيل الدقيقة فيما يسمى ” الواقعية السحرية “ تلك التي تبعث في نفس المشاهد إحساساً أسطورياً بالواقع، ومبعث هذا الشعور السحري هو المزج بين الواقع الطبيعي والصياغة الذهنية ( أو الهلوسة ).
وكانت معالجاته الغارقة في التفاصيل سبباً في سخط السرياليين عليه واعتباره مرتداً عن المعالجات الجريئة التي اشتهرت بها النزعة السيريالية، بل وقاطعه زعيم السرياليين الشاعر الشهير “أندريه بريتون” بعد أن كان من أقرب المقربين إليه . ويبدو أن زيارة دالي لإيطاليا عام 1937 ودراسته المتأنية لأعمال أساطير عصر النهضة العظام وبخاصة ” رافاييل ” قد أثرت في أدائه الملتزم بالتفاصيل.
ولكنه منذ سفره لأمريكا بدأ في التمرد هو ذاته على أسلوبه ونهجه الإبداعي الذي أطلق فيه العنان للعقل الواعي ليمتزج بالأوهام المجنونة ويجسد نظريته “الهلوسة النقدية” أو “الجنون النقدي”، ففي الولايات المتحدة وعلى مدى 15 عاماً قضاها هناك كرس معظم جهده لفن الإعلانات وتصميم الملابس وغيرها من إبهارات العالم الجديد.
وأخيراً: ظل الفنان العملاق في حركته وحيوته الدائبة بين أضواء الشهرة والمجد والمال حتى ماتت زوجته ورفيقة حياته السوفيتية الأصل “جالا ” عام 1982 فأصيب بعدها بالإكتئاب، واختلت موازين حياته وزهد الدنيا. وعاش سنواته الأخيرة في عزلة يعاني وطأة المرض والوحدة والضعف والشيخوخة فانتابته العلل والأسقام وأصيب بالشلل الرعاش فلم يعد يستطيع التحكم في فرشاة الرسم التي لم تفارق يده ليوم واحد خلال سنوات عمره الطويلة. حتى لفظ آخر أنفاسه في فجر الثالث والعشرين من يناير عام 1989 ، ليرحل آخر العمالقة العظام من فناني القرن العشرين عن خمسة وثمانين عاماً ( 1904- 1989 ) قضاها في ديناميكية بالغة الحيوية والغرابة ونجومية ساحرة مثيرة، تاركاً ورائه إرثاً كبيراً من الفن والإبداع.
* من مقولات سلفادور دالي:
” دعني أتعلم كل شيء لا يستطيع أي شخص آخر أن يعلمني إياه، ودعني أتعلم ما تستطيع الحياة وحدها أن تنقشه بعمق في جلدي”
” كل إنسان حر في أن يصبح أو لا يصبح ما يريد”
” الفرق الوحيد بين نفسي وإنسان مخبول هو أنني لست مخبولاً “
” أنا لا أريد حياة مثالية.. أنا أريد حياة سعيدة”
” أولئك الذين يرفضون تقليد أي شيء عادة ما ينتجون لا شيء”
” لا تخف من الكمال، فلن تصل إليه أبداً”