ديفيد فينشر، لماذا تم وصفه بالعبقري وما الذي يرفض فعله؟
يُصر ديفيد فينشر على أن تنفذ أعماله كما يرى هو لا كما يرى المنتج أو الممثل مهما كان يبلغ من نجومية ويبدو أن إصراره هذا كان سيمنعنا عن فيلم هو واحد من أهم أعماله، كانت ترى شركة الإنتاج قبل تنفيذ الفيلم أنه سوف يكلفهم ميزانية ضخمة جدًّا لا تستحقها جودة الفيلم، طالبوه بخفض الميزانية والعمل في ظروف إنتاجية أقل لكنه رفض وتمسك بكل شروطه.
حاولوا التحدث مع ممثلي العمل عن خفض أجورهم لكن ديفيد تحدث مع ممثلي فيلمه ونصحهم بالرضوخ لشركة الإنتاج، وبالفعل نفذوا كلام مخرجهم وفي النهاية تم عمل الفيلم كما اشترط ديفيد ثم توقع ما حدث! الفيلم يفشل في تحقيق أي إيرادات متوقعة في عام 1999.
والمدهش أن النقاد انهالوا بسيوف النقد تجاه الفيلم، لكن ديفيد كان واثقًا أن فيلمه سيخلد في تاريخ السينما للأبد وهذا ما حدث، هم نفس النقاد، أشادوا به بعد عدة سنوات وتحدثوا عن الفيلم على أنه سيكون أحد كلاسيكيات السينما، تخيل أننا كنا سنحرم من مشاهدة فيلم مثل Fight club!
بالطبع لكل مخرج فلسفته تقنيًّا في استخدام الكاميرا والمعنى الذي يريد أن يوصله للمشاهدين من خلال القصة والصورة معًا، لكن فينشر يعبر عن فلسفته في أصغر تفاصيل المشهد مولعًا بالتفاصيل في عالمه، الدراما تحدث عندما تفهم الشخصية معلومة جديدة وكيف تتناسب هذه المعلومة مع كل ما تعرفه تلك الشخصية عمومًا. لكن هناك شيئًا واحدًا يجهله ديفيد متعمدًا هو التصوير اليدوي “المتحرك”. كاميرا ديفيد مميزة دونًا عن كل مخرجي جيله، دائمًا يثبت الكاميرا على ترايباد ويكره التصوير المتحرك أي أن تكون الكاميرا مهتزة غير مستقرة، فعل ذلك مرة واحدة في ثلاث أفلام the girl with the dragon tattoo وzodiac وthe social network.
فيلم seven هو أكثر أفلامه التي استخدم فيها التحريك اليدوي للكاميرا، خمسة مشاهد! لكن عندما يستخدمه لاحظ كيفية تأثيره؛ المشهد الختامي للفيلم عند ملاحقة المحققين للقاتل كانت الكاميرا تهتز بينما عندما تأتي الكاميرا على القاتل چون دو (كيفين سبيسي). الذي لديه كل السلطة في تحديد مصير البطل، في تلك اللحظة وفي مكان الحادث تكون الكاميرا ثابتة على الترايباد في لقطة رائعة، دلالة أكثر من أي دليل آخر على من يملك السيطرة في تلك اللحظة.

كما أنه لا يقطع اللقطة إلى “كلوز آب” حتى يضطر إليها، على الرغم من ذلك فإن لقطات الكلوز-أب لدى فينشر لها استخداماتها المميزة هي الأخرى، لأنه من النادر أن يستخدمها فإذا استخدمها فنحن “ننظر للأمر بانتباه، لأنه يبدو أن شيئًا مهمًّا على وشك الحدوث! وأخيرًا هو لا يحرك الكاميرا أي حركة إلا إذا كانت تساعده بشكل أفضل في إيصال فكرته، ثنائي المحققين في seven وكيف أنه فقط بتحريك الكاميرا أدرك المشاهد تطور العلاقة دراميًّا بينهم من الحديث المتوتر في البداية إلى علاقة الصداقة بعد ذلك.

على عكس الجميع كلما تقدم فينشر في العمر يصبح أكثر ذكاءً، بدأ يستخدم الفراغ في اللقطة لدرجة أنه سوف ينهي اللقطة بكرسي فارغ كما فعل في the social network. وسوف ينهي المشهد بأكمله للحظة عندما ينظر شخص ما للعدسة بسعادة أو برعب، كثر للحدود السينمائية أكثر فأكثر سوف يعرض لنا ما بداخل ثلاجة و يبدأ بخلق كادرات جديدة وزوايا للتصوير لن تراها سوى في أفلامه. من الممكن أن يعيد المشهد أكثر من 50 أو 60 مرة ليصل لمراده بسبب إصراره الرهيب على تنفيذ ما يراه كما ذكرنا في البداية ذلك.
بالعودة للبداية وفيلم Fight Club، وبعد أن تحدثنا عن الطريقة الفنية التي يستخدم بها الكاميرا نعود للقصة والدراما. كان هناك هدفٌ واحد في إيصال المعنى أكبر من كونه سخطًا على النظام الرأسمالي والطريقة الاستهلاكية التي تتوحش في العالم. يتحدث تايلور (براد بيت) لـ إدوارد نورتن الذي لم يكن يملك اسمًا في الفيلم، “الراوي”..
“أرى هنا الرجال الأقوى والأذكى على الإطلاق، أرى كل هذه الإمكانيات وأراها تتشتت، اللعنة! جيل كامل يضخ الوقود ويخدم طاولات المطاعم، استعبدتنا الياقات البيضاء، الإعلانات تملكتنا وتدفعنا لمطاردة السيارات والملابس، نعمل في وظائف نكرهها لنشتري تفاهات لا نحتاجها .
نحن الأبناء المتوسطون للتاريخ، لا غرض ولا مكان، لا نخوض حربًا عظيمة ولا كسادًا كبيرًا، حربنا العظمى هي حرب روحانية، كسادنا الكبير هو حياتنا، كلنا تربينا أمام التلفزيون لنؤمن أننا ذات يوم سنصبح مليونيرات ونجوم سينما ومطربين كبار، لكننا لم نصبح، ندرك هذه الحقيقية ببطء ونحن ناقمون جدًّا جدًّا “

ومن الممكن أن نزايد على ديفيد في 2020 ونخبره أننا جيل المفارقات، نحن جيل المفارقة نعلم تمامًا ما لا يجب علينا فعله ونفعله، نعلم أن من غير الممكن أن نُستهلك لأكثر من 8 ساعات يوميًّا في العمل مقابل غناء شخص آخر أكثر ومع ذلك نفعل، نعلم بعد كل التجارب الإنسانية السابقة أنه من الممكن أن نعيش في عالم يقبل الآخر ومع ذلك تستمر إنسانيتنا في انحدار أكثر.
في مقابلة له على قناة BBC عام 2014 عقب آخر أفلامه gone girl يُعرّفه مقدم البرنامج قبل استضافته بأنه مخرج يتعامل مع شخصيات معقدة في أفلامه تتأرجح بين الجنون والعبقرية وتعبر هذا الخط الرفيع بين الوهم والحقيقة.
ويسأله المذيع: “إن المرء يشعر عند مشاهدة فيلم gone girl أنه ليس مجرد فيلم تشويقي غامض بل هو أقرب لتحليل مؤسسة الزواج” *يبتسم ديفيد*.
المذيع: “عندما أرى أنك تبتسم هل توافقني الرأي أم معترض؟”
يجيبه فينشر: “أشعر.. أو أتمنى أن يكون للفيلم العديد من المعاني لكنه كان في الأول لغزًا ثم تحول إلى حبكة من نوع آخر، لا أعرف ما هو بصراحة لعله فيلم تشويقي ومليء بالغموض، وآمل أن يكون تحول أخيرًا إلى فيلم ساخر، وهكذا أنتقل من نوع لآخر ومن نمط لآخر، لا أعرف إن كان الفيلم يقع ضمن تصنيف واضح أو له معانٍ كثيرة، آمل أن يكون له معانٍ كثيرة.”
ينتقل المذيع لسؤال أكثر شمولية ويسأله: “هذا ينقلني إلى مفهومك عن السينما، فالبنسبة لك هل السينما انعكاس للواقع، أم واقع بديل تخلقه لمشاهديك؟”
يجيبه: “بمجرد أن تخرج الكاميرا من الصندوق وتركب العدسة عليها ويدخل الممثلون غرف المكياچ وخزائن الملابس، يصبح الأمر شيئًا غير حقيقي بطبيعته، وتبدأ بالبحث عن خصال وأدلة لتقديمها على ما اعتاد المشاهدون من عرض الأفكارعليهم، وتقوم بالبحث أكثر عن أدوات أو وسائل تسمح بمحو الحدود لشيء استعراضي، وتبدأ إعطاءه القليل من الواقعية لكي يتفاعل معه المشاهد وما يمرون به عندما يسيرون في الشارع.
وعن توقعه لسينما هوليوود سأله: “إلي أين تذهب؟” قال فينشر: “لا أظن أن التوقعات بانهيار هوليوود أو التفاؤلات بمستقبل هوليوود كلاهما صحيح، أظن أن الواقع بينهم، بين كلا الرأيين.”

هل ديفيد يتنبأ بما سوف يحدث في العالم 1999 fight club.. والنهاية تكون على شكل تفجيرات في نيويورك ثم تستقيظ أمريكا في يوم 11 سبتمبر 2001 على حادثة انفجار البرجين في صدمة ويتغير شكل وسياسات العالم من وقتها حتى الآن، ثم في سوشيال نتورك عام 2007 يدرك أهمية شكل التواصل الجديد، فيجتاح العالم بعدها بسنوات قليلة ليصبح عالم السوشيال ميديا أكثر أثرًا في حياتنا اليوم، ثم gone girl” 2014″ فيلم أحد معانيه هي مرأة قررت أن لا تصمت أكثر من هذا، ثم حملة me 2 التي اجتاحت هوليوود عام 2017 حتى وإن كان ظهورها الأول عام 2006 لكن كان ضعيفًا. لا، هذا غير حقيقي بالتأكيد هو فقط فرط خيال مني لكن هذه المقارنات لا تمت للواقع بصلة بكل تأكيد.
في النهاية يخبرنا ديفيد فينشر في لقاء آخر له بأنه يعتقد أن البشر منحرفون، ويستدرك؛ لقد حافظت على هذا الأساس في مسيرتي. ومن هنا يتضح أن رؤيته للبشر المنحرفين الفوضويين حاول أن يقدمها في أكثر إطار منظم.