رواية ألواح ودسر.. بين حاضر يعاش وبين ماض يعاد

مَن هُنا يُجيد السّباحة، ومُصارَعة الأمواج..؟

حسنًا حسنًا أخفِضوا أيدِيَكُم، لن تَحتاجُوها ما دُمتُم سَتركبون مَعنا، ومَن لم يُجِدْها كذلك آمِنٌ ما دام صَعد بجوارِنا، ومَن أجادَها ومَن لم يُجِدها وأعرَض عنّا ونأى بِـجنبِه ظَنـًا بنجاتِه فَهُوهالِك…

ألواحٌ ودُسُر، كانت تِلك هى الأدوات اللّازمة للنّجاة، أُضيف إليها جُهدٌ مَبذول، وأمرٌ مِن المَولى، وتعطّرت بأيادي ذات قُلوبٍ يملؤها الإيمان والصدق، وأحاط بها الكَثيرُ والكَثير من الكلمات اللّاذعة السّاخرة والتّندّر بِكُل أنواعِه..

ولم يُعطى أمرُ بِنائها إلّا بعد مِئات الأعوام مِن المُجاهدة من صاحِب الرّسالة يُعينُه في طَريقه مُرسِلُها، ووالله كان مِن خير وأصبر النّاس على آلِه، دعوةً ونصيحة تلو أُخرىٰ لَهم، ولكنّهم لم يزدادوا إلّا إعراضاً حتىٰ بلغ السّيل الزّبى، فأمِر حامل الرّسالة ببناء السّفينة، وجمع من كُل الأجناس زوجين ليحملَهُم في السّفينة ومَن آمَن مَعه من قومِه إلّا إمرأتَهُ ووَلَده، وجاء الأمر وارتقى كُلٌّ إلىٰ مَكانِه، وأمر المَولىٰ الارض بأن تُخرِج ماءها، وأن تُسقط السّماء أمطارها، وهُنا كان انتهى النّصح ومضىٰ وقت التّفكير، هَلك كلٌّ مَن ابتعد ليحتمى بالجَبل، ونَجى كُل مَن صعد على الألواح وَسط الماء، أو بالأحرىٰ قول: هَلك مَن أظلَم قلبَه وصمّ أُذنَه، ونجىٰ مَن اتّصل قلبُه بالسّماء وآمن بما جاء به نَبِيّهم، وتِلكُم هى قِصّة نوحٍ عليه السّلام والتّى يعرِفُها أغلَبيّتُنا إن لم نكن جميعًا ولكن ما علاقَتها بِطُول جسَدِك أوقِصَرُه…؟!

ألواح ودُسر هوعُنوان رواية لأحمَد خيري العمري، وهُوكاتِبٌ وطبيب أسنان عِراقى، مِن مواليد بَغداد، وُلد عام 1970.

ويمتد نسب عائلته إلى الخليفة عمر بن الخطًاب رضي الله عنه، تخرّج في كُلّية طب الأسنان من بغداد عام ١٩٩٣، ولكنّه اشتهر ككاتب إسلامي أكثر منه طبيب، وتميّز أسلوبه في طرح القضايا الإسلامية باتخاذها مُنحنىً تجديديًا في عرضها مقرونًا بأسلوب أدبي مميز.

ومِن إحدى أهم مؤلّفاته هى “ألواح ودُسُر”

التى أبدع الكاتب في سردها وتأليفها، وربط الواقع وما نعيشه بقصة نبيّ عظيم، ومن أولي العزم من الرسل…

قام باختيار شخصيتين خياليتين تُشاهِدان ما يحدث بعيني القارىء، وتتنقّل فقراتُها بين أشخاصٍ محورية إلى القارئ في تناغم يجذب الانتباه دون مَلل.

وتلك الرّواية تجمع بين الرواية الفانتازيا، وأدب الواقعية. ومن أهم كتاب هذا النوع “غابرييل غارسيا ماركييز”.

حين يُكشف سِتر الواقع، ويُزاح السّتار عن حقيقتِه، لتعلم أن الأحداث تُعاد وتتكرر، حينها فقط تعلم مَدى جهلنا بما يجب العِلم به، وأن الإنسان تَسوقه غفلتُه وشهوته للوُقوع في جُب العُبودية.

فتجرّد الكاتِب مِن عاديّة الأمور، وعَرض لنا قِصّةٌ عرفناها قبلًا ولكن لم نُدرِكُها جيداً، واستثنى القارئ وضمّه لصفوف المُشاهِدين بـصُحبة الأفق، مُحلّقًا جوار النّورس.

نُور.. طِفلٌ اُختير من بين صّفوف الأطفال لكىّ يتوقّف نُمو جسدِه، أن تكون بعُمر التّاسِعة وتبدو بعمر الخامسة أوالسّادسة، لأمرٌ مُفزِعٌ يُؤرق مَضجع الأمّ وتنساب لها أدمُعها.

بدأ الكاتب روايته من جانِبٍ آخر بعيد كُلّ البُعد عن السّفينة والألواح، أسلوبٌ يجعلك تتوقّف قليلا. ماذا بعد وما العلاقة؟ فتُكمِل وقد أكلك الفُضول للمَعرِفة..!

مُشكِلةُ أنّ جسدَك لا ينمو بينما عَقلُك ذو فِكر كَثير، بلاءٌ ونِعمةٌ في آنٍ واحد، ولكن في حالتُنا تلك هُوالفضل وتمام النّعم..

ولكنّ الأُمّ لن تراه هَكذا، ستسأل القاصي والدّاني لتجد الحل، وهذا ما فَعلته أُمّ نور، لم تسأل طبيبًا ولكنها لم تترك دجالا أوكاهِنًا إلا وأتتهُ لتسأله، ولكن دون فائدة، لم يزدد نور طولاً، حتّىٰ نَصحَتها خادمتُها أن تذهب للسّيد نوح لعلّها تجد الحل عِنده.

وكان آن ذاك سيرة السيد نوح لا تُذكر إلّا بالبُغض والكراهية، كانوا يخشون ما يدعوهم إليه ويستنكرونه.

ولم يذكر الكاتب هنا أنّ نوحًا كان نَبيّا أو ما شابه، ولكنّه صوره في صورة مُعلّم للفُقراء، أنفق كُلّ ما يملُك في سَبيل تعليم قومِه ما عرفه من الحق.

وكالعادة لم يستجب له إلا القليل، وعادت أم نور مِن عنده خالية الوفاض لا تحمل تعويذة ولا دواء ولا حجابا لعلاج صغيرها…!

لكنّ الفتى قد عاد وقد أمسك طرف خيط علاجه دون أن يعلم، أكله التّساؤل والفضول حول ماهيّة السيّد نوح، وما عمله، وما باله صابرا على مالا يُطيقُه بشر، حتماً هُناك سِرّ..!

فصار يتتبّع كُل أثرٍ وخبرٍ له وعن توابِعه، حتّى مال قلبُه لَه، فصار يلتقى أتباعُه يتحاور معهم ويشاركهم فِعلهم، رغم الإيذاء والإحباط المُجاور لهم، يزيل عَثرة مِن طريق تلك، يجمع قُمامة هذا، وينظف حيّ هذا، وأيقن أنّ بداخِله شيئًا ينمو، لا يَعرف ماهيّته لكنّه يُرضيه، وتيقّن مِن حلاوَتِه حين ازداد طوله بضعة سنتيمترات..!!!

_”نور..تذكر أنك يجب ألا تفعل ذلك لكيّ يزداد طولك..بل لكي تكبر، لأننا لا نكبر إلا عندما نفعل الشيء الصّحيح..!”

السيد نوح

ولكنّ الحُلو لا يستمر دائما، فجُمعت شخصيّات السّوء بصفاتِهم مُعلنةً صريحة، وهذا شئ جديد يميز أسلوب كاتبها، فاجتمعت السيدة إمّعة، وغلاظة، وتفاهة، وحيزبونة، ونميمة، والسيد جشع، وعبد المال، واشتركوا في انجرافهم لحملة التّحضر والتّغير التى أصابت بلدتهم، والتي ابتدأت بتلك الهدايا الغريبة التي أحضرتها تفّاهة من بلاد الغرب ومن ضمنها “الكُولا لولا ” والاجهزة الغريبة، وصور نساء حاسرات الرأس عاريات الملبس حتى بيع أرواحهم…!!!

نص المُعاهدة

“اتفق الطّرف الأول، أعضاؤه مجلس إدارة المدينة المُوقّرة، ونيابة عن أهل المدينة ببيع أرواحهم بيعًا قطعيًا ونهائيا، غير قابل للتراجع إلى الطرف الثانى..

واتفق الطّرف الثانى وهو السيد أبرهة على شراء أرواح الطّرف الأول مقابل التّنازل عن خمسين بالمئة من الديون..

ملحوظة أولى: لا يحق للطرف الأول اتخاذ أى إقرار إلا بعد الرجوع لمالك روحه.

ملحوظة ثانية: يصبح مقياس الصواب والخطأ، وما هومشروع وغير مشروع عرفا وقانونا راجع إلى الطّرف الثاني.

ملحوظة ثالثة: يتعهد الطرف الثانى منّة منه وفضلا، بتنظيف وترقية وتمدين الطّرف الأول..!”

تبدو كقصةٍ قديمة تُعاد مرة تلو أخرى، فتعددت الأسباب، والبيع واحد..

وكالقصة القديمة خُذل السيد نوح مِن ولده وامرأته، وهنا كانت القصمة الكُبرىٰ، أمر تابعيه بجمع الألواح وليست أيّة ألواح، ألواح استخدمت في تعليم الأطفال وتكون قد مرّت على الأقل على عشرة أطفال وليست ألواح فارغة، فأخذ بطلنا الصغير نور يعلم الأطفال على ألواح في السر، وكان مع كُلّ مرة يزداد طولا..!

وكانت المسامير أيضا من صنع أيديهم لا تلك التى من مركز التسوق في المدينة، ولوح جوار الآخر تكوّنت السّفينة، وبدأ الماء ينبع من أماكن متفرّقة في المدينة، وحينها صدر أمر السيد نوح أن اجمعوا من الحيوانات من كل زوجين اثنين في السفينة.

وذات مساء تزامنا مع وضع آخر لوح بالسفينة، اهتزت المدينة بشدة، وبدأ هلعٌ من نوعٌ آخر غير مشهود، وأخبرهم السيد نوح أنّ كل من قال “لا إله إلا الله” سيركب فيها.

نور

“ودهشت أنّ كلمة لا إله إلا الله تسهل الطّريق الصعب أمامنا، لا أدري إن كانت تسهل لنا الطريق بالضبط أم تجعلنا أقوى بحيث إن الطريق صار يبدو أسهل، لا أدري، وربما لا فرق بين الاثنين..”

وركب مَن ركب وغرق مَن غرق وهو آمل أن تأتي طائرات السّيد أبرهة لإنقاذه وسارت القصّة كما يجب لها أن تسير وبدأت الرحلة ب “بسم الله مجراها ومرساها”…

القصّة معروفة للجميع، ولكن ما لا نعرفه أنها تحدث كلّ يوم وفي كل مكان، هى قصة واقعٍ بعد أن نُزيل عنه أقنعته وأصباغُه الكثيرة، فإذا بالماضى حاضرٌ بيننا، والحاضر مُتلبسٌ للمُستقبل.

يرويها الكاتب من وجهة نظر طفلٍ صغير، هو الشخصية المحورية، موجود بكل مَكان ويمثل العديد مِنّا قد يكون أنا أو أنت أو أي شخص آخر يرفض عاصفة التّحضر غير المفهومة.

والشخصيات الأخرى لا غريب فيها مُتواجدة جميعها وتُحيط بنا كثير منهم، ولنا الخيار أن نكون أيّهم في حقيقتنا…

ويضعُنا الكاتب هُنا أمام خيارين لن يُوجد ثالث لهما، إمّا الغرق بالطّوفان أو الانضمام لرُكاب السّفينة والإبحار معهم في الصّحراء..!

فقط أعمل عَقلك ولا تَكُن عبدًا لغيرك تبيعُه روحك بثمنٍ بخسٍ، لا تجني بِه شيئاً، فيُصيّرُك عبدًا للمادّة وتسوقك نفسك وهواها لاستساغة ذُلّها وهوانِها، فيُصبح كطوقٍ ناعمٍ خبيث، يظل يلتف حول عنقك حتى يُزهق روحك دون أن تشعر بقسوته…

هل الآن عرفتم بما أفادتكم السباحة، وما علاقة الألواح والدّسر بطول قامتك وقِصرُها..؟