من السجن والإيقاف إلي أسطورة الملاكمة.. لماذا محمد علي كلاي هو الأفضل؟
خلد التاريخ اسمه وأحبه الجميع علي اختلاف الأديان والألوان والأعراق،كان رمزا للانتصار على سياسات التمييز العنصري التي انتهجتها أمريكا خلال القرن الماضي،مبادئه الراسخة، أخلاقه،أحلامه غير التقليدية وإسلامه كل ذلك صنع منه بطلا أسطوريا ألهم شباب العالم منذ فترة الستينيات إلي وقتنا هذا،فمن لا يتمنى أن يصبح مثل محمد علي كلاي،أن يتمكن من تحقيق أحلامه وإن كانت الظروف غير مواتية ،أن يقفز خارج دائرة التقليد فيصبح هو بذاته بصمة متميزة يسعى الجميع للسير حذوها،رغم إحاطته بأضواء الكاميرات التي لم تفارقه للحظة،وأقلام الصحافة التي تتشدق باسمه مطلع كل صباح، وتتويجه علي عرش الملاكمة دون منازع،إلا أن ذلك لم يمنعه من اتخاذ موقفا نبيلا بشأن الحرب على فيتنام ،كان يعلم جيدا أن عليه التضحية بكل هذا فلم يتردد للحظة،فتبني أحد أكثر المواقف الإنسانية شجاعة في تاريخ الرياضة.
محمد علي كلاي، البطل التاريخي لعالم الملاكمة، والملاكم الذي لا يمكن إيقافه بطريقة مشروعة ، حقق مالم يحققه لاعب آخر، حاز على بطولة العالم لثلاث مرات، كما حقق الفوز في 57 مباراة وخسر خمس فقط ضمن 62مباراة خاضها، نال شعبية فاقت أشهر الرياضيين منهم بيليه وماردونا فبلغ صيته مشارق الأرض ومغاربها.
بضعة أيام مرت على ذكرى ميلاده فقررنا أن نتناول اليوم إلقاء الضوء على السيرة الذاتية لحياة أحد أكثر الشخصيات إلهاما لجيلنا، جيل العشرينات والذي أصبح بأمس الحاجة لقصة نجاح تزرع الأمل في أنفس مازالت في مقتبل الحياة إلا أنها لم تعد تعرف له طريقا…فهيا بنا للتعرف على حياة صاحب الطموحات غير المحدودة.
نشأة في ظلال الفصل العنصري
رغم وصول أول رئيس ينتمي لذوي البشرة السمراء إلي سدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن مازلنا نشاهد إلي اليوم بعض الحوادث العنصرية التي لازالت يستنكرها الجميع متسائلا”كيف يمكن لمثل هذه الأفعال أن تحدث في القرن الواحد والعشرين ؟!
هذا ماكان يحدث في 2019،ولكن كيف كان هو الوضع قبل مجئ الرئيس الأمريكي جون كينيدي والذي أقر قانون الحقوق المدنية قبل خمسين عاما للقضاء على نظام الفصل العنصري آنذاك؟
رغم وصول أول رئيس ينتمي لذوي البشرة السمراء إلي سدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن بعض الحوادث العنصرية التي يستنكرها الجميع لازالت قائمة إلى اليوم خاصة
في دولة تدعي التمسك بحقوق الإنسان متسائلين”كيف يمكن لمثل هذه الأفعال أن تحدث
في القرن الواحد والعشرين ؟!
هذا ماكان يحدث في 2019،ولكن كيف كان هو الوضع قبل مجئ الرئيس الأمريكي جون كينيدي والذي أقر قانون الحقوق المدنية قبل خمسين عاما للقضاء على نظام الفصل العنصري آنذاك؟
في جميع الأماكن العامة كان هناك ما يشبه الجدار العازل الذي شيده الاحتلال لفصل القدس عن محيطها الفلسطيني،فلم يتوقف الأمر عند فصل ذوي البشرة السمراء عن البيضاء في السكن،المدارس وأماكن العمل فحسب بل تجاوزه لمنع دخولهم كثير من الأماكن، الادارة الامريكية وقتها كانت هي المشرع لتلك السياسات وصياغتها بقالب قانوني يكرس للتمييز العنصري بكافة أشكاله في جميع الولايات.
من بين تلك القوانين التي شرعت حينها في ولاية ألاباما هو قانون يفرض على أصحاب المطاعم عدم السماح باختلاط العرق الاسمر والابيض وذلك باقامة حائط يفصل بين الاثنين مع ضرورة توفير مدخل منفصل لكل منهما.هكذا كان يعاني الملايين من ذوي الاصول الافريقية ومن بينهم محمد علي كلاي والذي ولد في مثل تلك الظروف في السابع عشر من يناير 1942 في مدينة لويفيل بولاية كنتاكي باسم «كاسيوس مارسيلوس كلاي جونيور»،في ظل أسرة معتنقة للديانة المسيحية.
بداية موهبة في الثانية عشر من العمر
في إحدي المرات التي خرج فيها للتنزه مع أصدقائه،سُرقت دراجته،وهو ما دفعه إلى الذهاب لمركز الشرطة وإخبار الضابط جو مارتن والذي كان يعمل مدربا للملاكمة بإحدي النوادي المحلية أنه سيسحق السارق ضرباً إن رآه،فما كان من الضابط إلا أن رد قائلا«عليك أن تتعلم كيف تقاتل قبل أن تتحدى العالم»، كانت كلماته تلك هي البداية لصناعة أحد أفضل المواهب في تاريخ الملاكمة حيث بدأ محمد علي كلاي التدريب بعدها مع مارتن ليربح معه جائزة القفاز الذهبية في عام 1956 للوزن الخفيف، ثم يواصل انجازاته المتتالية بالفوز بذهبية الأولمبياد بروما في العام 1960.
«لقد كرهت كل دقيقة من التدريب، ولكن قلت: لا تتوقف.. تعاني الآن وتعيش بقية حياتك بطلاً»
محمد علي كلاي
الانفراد باللقب العالمي الأول دون منازع
بعد مرور أربع سنوات،وبينما كان كلاي في الثانية والعشرين ربيعاً،تمكن من تحقيق أول ألقابه العالمية وكسر رقما قياسيا جديدا كأصغر لاعب يحقق لقب البطولة وذلك بإقصاء بطل العالم حينها “سوني ليستون” بالضربة القاضية في مفاجأة من العيار الثقيل.
«لكي تصبح بطلاً عظيماً، يجب عليك أن تؤمن بأنك الأفضل، فإن لم تكُن، فتظاهر بأنك كذلك»
(محمد علي كلاي)
كان له تقنيات فريدة مغايرة لما عرف في قواعد اللعبة،ربما كان ذلك هو سر تفوقه علي العديد من الأسماء والتي يتغنى كثيرون بصعوبة إلحاق الهزيمة بها، رأي البعض بأن أهم ماكان يميزه هو ثقته الكبيرة بالنفس ونظراته الترهيبية للمنافسين ما يدخلهم في دوامة من القلق قبل بدأ اللقاء فتنتهي الجولة لصالحه.
كيف اعتنق محمد علي كلاي الإسلام؟
كانت بداية معرفة محمد علي بالإسلام من خلال جماعة أمة الإسلام وهي جماعة ينتمي جميع أفرادها لذوي البشرة السمراء، فلم يكن مقبولا أن يتم السماح للعرق الأبيض بالالتحاق بعضويتها،نشأت تلك الجماعة كرد فعل معاكس لحركة التمييز العنصري التي شهدتها أمريكا في تلك الفترة، رغم أنها تحمل اسم الإسلام فإن مبادئها تتعارض مع مبادئ الإسلام الحقيقة، فهي حركة تؤمن بتفوق العرق الأسمر على الأبيض ونظرا لعدم معرفة الكثير من الأمريكيين بتعاليم الإسلام ، انضم إليها نسبة كبيرة من ذوي البشرة السمراء وكان من بينهم محمد علي كلاي والذي انشق عن تلك الحركة فيما بعد وأعلن اتباع المذهب السني بعد زيارته لمصر والسعودية ولقاء شيخ الازهر ومعرفة تعاليم الدين التي لا تفرق بين لون أو عرق.
عقب فوزه ببطولة العالم في الوزن الثقيل وتتويجه على عرش الملاكمة بأيام قليلة،خرج محمد علي كلاي لوسائل الإعلام معلنا اعتناقه للإسلام وتغيير إسمه من كاسيوس مارسيلوس إلى محمد علي،الإسم الأول لأنه يحمل إسم الرسول والثاني لأنه إسم علي بن أبي طالب،وحين سأل عن سبب تغيير اسمه ،أجاب بأن هذا الإسم لا ينم سوى عن فترة العبودية التي عاشها آبائه وأجداده.
«كاسيوس كلاي هو اسم الرقيق.. أنا لم أختر ذلك، وأنا لا أريد ذلك.. أنا محمد علي، وهو اسم حر وأنا أصر أن يستخدمه الناس عندما يتكلمون معي أو عني»
في الحلبة كان علي ، لكن في الصحف كان لايزال كاسيوس،كان يتم تداول أخباره بالإسم القديم لمدة خمس سنوات، كان من بين تلك الصحف النيويورك تايمز وخاصة في الفترة التي رفض فيها الإلتحاق بالجيش الأمريكي أثناء حربه على فيتنام والتي سنتعرض لتفاصيلها لاحقاً.
لم يكن إسلامه نهاية المطاف بل كان بداية الهام جديد دفع الآلاف من الأمريكيين إلى اعتناق الإسلام أسوة بمحمد علي كلاي، والذي أبهر الجميع ليس بموهبته الرياضية فحسب بل وباخلاقه ومواقفه النبيلة النابعة من روح الإسلام ، لعل من أبرز أقواله التي ساهمت في نشر الصورة الحقيقية للدين في منصات الإعلام الأمريكية وذلك ضمن إحدى اللقاءات التلفزيونية عندما سألته إحدى الفتيات عن السبب الذي دفعه للإسلام فأجاب قائلا :
«ما اعتقده عيسى كان جيدا وما كان يعتقده موسى كان صحيحاً أيضاً ..الدين جيد لكن الناس هم من يفعلون الأشياء باسم الدين..هناك مسلمون يفعلون أشياء لا ينبغي فعلها كذلك البروستانت والبوذيين وكذلك الهندوس..اخترت الإسلام لأنني لم أرى مثل هذا الحب بين المسلمين في ديانة أخرى ….»
إيقاف لأربع سنوات مع تجريده من اللقب العالمي
«أنا أتخلى عن لقبي ، ثروتي ، وربما مستقبلي. لقد تم اختبار العديد من الرجال العظماء بسبب معتقداتهم الدينية. إذا نجحت في هذا الاختبار ، سأخرج أقوى من أي وقت مضى»
في مايو ١٩٦٧ حُكم على علي بالسجن لمدة خمس سنوات كما سحب منه لقبه الدولي فضلاً عن منعه من ممارسة الملاكمة لفترة تكفي للقضاء على موهبته الفريدة، لم يستسلم بل واصل الدفاع عن موقفه الإنساني من حرب فيتنام ،حينما رفض أن يكون جزءاً من الإعتداء على دولة أخرى مسالمة لا لشئ سوي رغبة المستعمر الأمريكي في استباحة أراضي الغير لفرض نفوذه على أنظمة لا تقبل أن تكون تابعاً للمتعجرف الأمريكي.
وصف محمد علي الحرب بأنها ضد تعاليم القرآن قائلا:
«هذه الحرب ضد تعاليم القرآن، وإننا – كمسلمين – ليس من المفترض أن نخوض حروبًا إلا إذا كانت في سبيل الله”… “لن أحاربهم فهم لم يلقبونني بالزنجي»
أضحت قضية محمد علي قضية رأي عام ،استأنف محمد علي كلاي علي الحكم الصادر فتم تخفيف العقوبة إلى أربع سنوات، كما تم تحويل القضية برمتها إلى المحكمة الأمريكية العليا للفصل فيها والتي أصدرت قراراً تاريخياً بتبرئة كلاي وعودة حقوقه المدنية إليه ورفع قرار منعه من ممارسة الملاكمة ، وهو ما مثل بداية جيدة لإعادة الحقوق المسلوبة لذوي البشرة السمراء.
ملاكم لا يمكن إيقافه بطريقة مشروعة
ماذا لو قررنا أن نتخيل كرستيانو أو ميسي في هذا الوضع…أن يتعرض أحدهما لإصابة بالغة تعيقه عن اللعب لبضعة سنوات، هل سيتمكن أي منهما من العودة إلى أمجاد الماضي والانفراد بصدارة التصنيف العالمي للساحرة المستديرة؟!
بالطبع لا، الا ان محمد علي كلاي تمكن من كسر تلك القاعدة بجدارة، يحرص نجوم الملاكمة حال بلوغهم قدرا كبيرا من الشهرة والثراء تجنب مواجهة المنافسين الأقوى أو الأصغر عمرا حفاظا على تاريخهم الرياضي المرموق، لكن كلاي لم يكن كذلك، فبعد تبرئته والعودة بعد إيقاف دام لأربع سنوات قرر عدم الاكتفاء بما حققه وأصر على مواصلة الإنجازات وذلك بتحدي اصعب منافسيه بل وصل الأمر إلى مواجهة جو فريزر الفائز ببطولة العالم للوزن الثقيل فتمكن محمد علي من استعادة عرش الملاكمة والتتويج بلقبه العالمي للمرة الثانية في العام1973.
و في مباراة صنفت الأقوى في تاريخ اللعبة واجه محمد علي منافسه جورج فورمان والذي كان يبلغ من العمر حينها 25 عاما آنذاك في حين أن محمد علي كان في الثانية والثلاثين،حيث تمكن من الفوز بلقبه الثالث بهزيمة الملاكم الأفضل حينها في 1974..
نهاية المسيرة التاريخية
في العام التاسع والثلاثين من عمره قرر محمد علي كلاي ختام مسيرته المليئة بالإنجازات وذلك في العام 1981، عقب الاعتزال تم تكريمه اعترافا بما تركه من بصمة ليس في تاريخ الملاكمة فحسب بل وبما تركه من رصيد اخلاقي لا يزال يذكره العالم.
في هوليود عادة ما يتم الاحتفاء بالمشاهير برسم نجمة تحمل اسمائهم علي ارضية ممر الشهرة تخليدا لهم، الا أن الامر كان مختلفا هذه المرة حينما قرروا وضع اسم محمد علي في هذا الممر تقديرا لمسيرته التاريخية لكنه رفض أن يتم تدوين اسم الرسول علي الارض وإن كان الغرض هو التكريم وهو ما تقبله المسؤولين والذين قررواوضع النجمة التي تحمل اسمه على حائط مسرح دولبي في ممر الشهرة ،فباتت النجمة الوحيدة التي لاتطأها الاقدام.
في العام 1999 تم اختياره كرياضي القرن وذلك وفقا لاستفتاء أجرته ال BBC بالاضافة إلى استفتاء آخر أجرته صحيفة صحيفة لاغازيتا ديلو سبورت الإيطالية بعدما حصل على 71.2% متفوقا علي
أشهر الرياضيين.
صاحب أسرع و أقوى لكمة في العالم هذا هو اللقب الذي اشتهر به طوال مسيرته ولان لكي شئ ثمن فقد سدد محمد علي كلاي ضريبة ذلك حينما تمت اصابته بداء باركنسون بعد اعتزاله بثلاثة أعوام فقط، وهو ما يعود اسبابه الي تعرض الرأس لضربة قوية.
في الرابع من يونيو 2016 تم الاعلان عن نبأ وفاة أسطورة الملاكمة وأحد أفضل الشخصيات الرياضية فأقامت له الولايات المتحدة مراسم عزاء وصفت بالتاريخية حيث شهدت حضور عددا من قادة العالم إلى جانب أشهر الرياضيين فضلا عن التواجد الشعبي لنعي أحد رموزه المؤثرين.
في الختام، لن أجد كلمات أصف بها ما بداخلي تجاه تلك الشخصية التي الهمتني منذ الصغر سوى بما قاله مارك توين:
«من الغريب أن الشجاعة الجسدية يجب أن تكون شائعة جدًا في العالم والشجاعة الأخلاقية نادرة جدًا.” كان علي كليهما. لم يغير العالم كما أراد ، لكنه فعل ما كان من المفترض أن يفعله ، وبطرق لا حصر لها ألهم العالم».