أدب الأندلس.. مرآة حضارة مضت
“أثرت فينا عيون النّرجس” ووهبت النفسَ إلى “زمن الوصل في الأندلس” حين “أضحى التّنائي بديلًاعن تدانينا” إلى عبقهم أمضي “فهل راكبٌ ذاهبٌ عنهم يحييني؟” فإنهم “والله ما فارقوني باختيارهم” لكنّها “الأمور كما شاهدتها دولٌ من سرّه زمنٌ ساءته أزمانٌ” فحقّ السؤال “أعندكم نبأٌ من أهلِ أندلسٍ؟!”.
اللغة العربيّة وردةٌ سحريّة، ففي أي أرضٍ غُرِست فاحت وأينعت، وعلى أرض شبه جزيرة ايبريا -اسبانيا والبرتغال حاليًا- تمازجت قريحة شعرائها مع الطبيعة الخلابة العامرة، فأثمرت على مدار ثمانية قرون أدبًا غزيرًا موثقًا لتاريخ أمة رفعت جبينها للعلياء ودارت أمجادها في يد الزّمن منصرفةً.
الأدب العربيّ الأندلسيّ :
كان الأدب الأندلسيّ نقطة التقاء لفصاحة الشّرق وعذوبة طبيعة الغرب، حاكى في بدايته القصيدة العربيّة التقليدية كبناء وغرض. وكان شعراء الأندلس الأوائل ينظرون إلى شعر المعلقات كنموذج للاقتداء، وتكنّوا فيما بينهم بأسماء شعراء المشرق لمديح وتعظيم صاحب اللقب، فابن زيدون لُقِب ب”بحتري الأندلس”، و الشاعر”ابن خفاجة” لُقِب ب”صنوبري الأندلس”. وفي نظم الشّعر قصدوا أغراض الشّعر التقليدية
من التصوف والمدح والرثاء، لكنهم توسعوا في غرضيين وأضافوا لهما من لمساتاهم الكثير، “هما الغزل ووصف الطبيعة”، كما استحدثوا غرضًا شعريًا جديدًا هو”شعر المراثي” أي رثاء الممالك الساقطة والأمجاد المتآكلة.
الإفراز السّياسيّ للشعر الأندلسيّ:
تعانقت السياسة والأدب على أرض الأندلس، فمعظم حكام ورجال الدولة كانوا أدباءً لهم مع الأقلام جولات وصولات، عبدالرحمن الداخل القائد الذي أسس الخلافة الأموية على هذه الأرض، وضع كذلك بواكير البلاغة الأدبية هناك، وكانت له قصائد مشبعة بالحنين إلى دياره الأصلية. فعكس الشّعر في هذه المرحلة البدئية محاولات التأقلم ومشاعر الشّوق إلى البلاد الأخرى. ثمّ أصبح الشّعر أداة توثيق للحضارة الناشئة وفتوحاتها المظفرة، فكان المنصور بن أبي عامر لا يخرج إلى واقعةٍ إلا ومعه شعراء، لتكون قصائدهم شهوده إلى ذاكرة التّاريخ. وبعد أن انفرط عقد الخلافة لم تعد الأندلس بحاكمٍ واحد، بل تفرقت إلى دويلات عُرِف عهدها بعهد ملوك الطوائف، وكان عهدًا غريبًا ازدهر فيه الأدب وانحدرت السّياسة، واستمر الشّعر في رسالته سفيرًا للحالة الاجتماعية، والذّي شملته بحد ذاته ليخضع لتغييرات جذرية ومستحدثة.
وصف الطبيعة في الشّعر الأندلسيّ:
البحاروالأنهاروالأزهاروالأشجاروكلّ ما وقعت عليه عين الشّاعر الأندلسيّ ،جعلت لوصف الطّبيعة شأنًا عند عرب الأندلس لم يكن له مثلٌ عند أقرانهم في المشرق، فاستجابوا للبيئة المحيطة بقصائد جنحت للتحرر من معاني البداوة. ولم يكن الوصف حسيًّا فحسب بل زادوه في التشخيص والرابطة العاطفية، فاستخدموا وصف الطبيعة في موضوعات الغزل، وزينّوا هذا النوع من الوصف برمزيةٍ بديعة في مدائحهم، فمزج الأندلسيون _بظاهرةٍ مُستحدثة_ محاسن الطبيعة بمآثر الممدوح.
الغزل ومُميزاته في الشّعرالأندلسيّ:
الغرض الشعريّ الأكثر رواجًا عند الأندلسيين، كان قليلًا في المرحلة الأولى لوجود الوازع الديني وانشغال الناس بالفتوحات، ومع تغيير نوعية الحياة وميلها للنعومة والدّعة انتشر بكثرة وتداخل مع شعر الطبيعة بصياغةٍ رقيقةٍ كالنسائم النّدية. ثمّ جاء شعر الموشح ليتخد الغزل غرضًا ثابتًا ويُعزز سطوته. وبرزت ظاهرة جديدة في الغزل _لم تكن معهودة قبلًا_هي إقبال المرأة على التغزل بالرّجل والبوح بدواخل أحاسيسها. من أشهر شعراء الغزل الأندلسيين ابن زيدون، و من أشهر شاعراته حبيبته ولادة بنت المستكفي.
أسباب التحوّل في المنظومة الشعريّة:
الشّاعر ابن مجتمعه، منه يبدأ وإلى متطلباته ينتهي، ولا يمكن أن يحيد عن خطه الحضاري. تقارب العرب مع الإسبان تدريجيًا، وألفوا شعبًا جديدًا ثنائي الهويّة، فيه من العروبة وفيه من الإسبانية، وأفروزا لغة عاميّة عربيّة خاصة بأهل الأندلس، فكان لابدّ من أدب قابل للتطويع مع هذه اللغة المستحدثة. ومن الجدير بالذكر أن انفتاح المجتمع لم يقتصر على اللغة، بل تجاوزها إلى الموسيقى والفنون الشعبية. عزز ذلك قدوم الظّاهرة الموسيقية “زرياب” من المشرق هاربًا من التّصفية الجسدية، فأنشأ في الأندلس معهدًا للموسيقى يُصنّف بأنه أول معهد للفن في العالم، استقطب به هواة الغناء من كل الأصقاع، مما استدعى خلق نمط شعري أكثر قابلية للتلحين والغناء كالموشحات والأزجال.
الموشحات الأندلسيّة:
فن أدبي شعريّ شعبيّ يشتمل كلامًا منظومًا على وزنٍ مخصوص ظهر في أواخر القرن الثالث عشر الهجريّ، نشأت بعد ما أولع الأندلسيون بالموسيقى وفُتِنوا بالغناء، فأمام الألحان المنوعة وقف الشّعر التقليدي لاهثًا من الجري خلف النغم، وأخذت الضرورة الفنية تقتنص حوافه وتطوّعه للموسيقى. جاءت الموشحات بسيطة التركيب قليلة التعقيد، تتخد مجالها من الموضوعات الغنائية كالخمر والطبيعة والغزل، تُكتَب بالعربية الفصحى عدا الخرجة_الكلمة الأخيرة_ فتُكتَب بالعاميّة الأندلسيّة. سُميَت بهذا الاسم نسبةً إلى الوشاح الذيّ تضعه المرأة، ويكون مُرصعًا بأحجاروجواهر وألوان، لتتفرد حتّى بالاسم عن القصائد التقليديّة. وغناء الموشحات ما زال مستمرًا إلى يومنا الحالي، وأشهرها ما غنته السيدة “فيروز” للشاعر الأندلسي “لسان الدّين بن الخطيب” :
ليال كتمت سرالهوى بالدجى لولا شموس الغرر
مال نجم الكأس فيها وهوى مستقيم السير سعد الآثر
حين لذ النوم شيئًا أو كما هجم الصبح هجوم الحرس.
الأزجال في الأندلس:
الزّجل لغةً هو رفع الصّوت بالطرب، أما اصطلاحيًّا فلا يبعتد كثيرًا عن المعنى اللغويّ. هو شعر منظوم بكلام عامة النّاس، وُجِد لأجل الغناء أصلًا و ليس للقراءة، يتحرر من قواعد الأعراب ، ولا تبرز موسيقاه الفنيّة إلا خلال الغناء، فالزّجل يُسمَع أحسن مما يُقرَأ. يميل المؤرخون إلى كونهِ استُحدِث من الموشح، ومنهم من يُرجِعهُ إلى الأغنية الشّعبية الإسبانية. يُعزَى انتشاره إلى عسر فهم الشّعر الفصيح وموارباته اللّفظية على الأعاجم، خاصةً بعدما استلم البربر مقاليد الأمور في عهد المرابطين. و كان الزّجالون بطبيعتهم يميلون إلى الفكاهة والتهكم و السّخرية، كما استعملوه في الهجاء الذّي كان يأتي لاذعًا مقدعًا، كونه بالعاميّة فلا يتورعون عن ذكر أفحش الكلام وأقبح الألفاظ. الفنون الشعبيّة خلفها دومًا جندٌ مجهولون، لكن أكثر ما وصلنا من زجل هو من إمام الزّجاليين “ابن قزمان القرطبي”، ونلاحظ الفارق في الألفاظ والتطعيمات الإبداعيّة بينه وبين أنماط الشّعرالأخرى، فيقول في مجيء العيد مثلًا:
كل وجه مزين يوم العيد هـ برا
والبكا بالمقابر على الاحباب ذ مرٌا
احتفال الفجايع ف احتفال المسرٌ
ودموع الترح في ثياب الشطار
شعر المراثي ودموع القوافي:
من بلغَ المعالي كان سقوطه مدويًا وحزنًا، حضارة عامرة كان حملُها ثقيلًا نأت به ظهورالأحفاد، وتُرِك الإرثُ لمن لم يستحقهُ فضاع، وانقلبت حلاوة الدّهر في الأفواه علقمًا وصديدًا، فالقيّم التّي نسقطها تسقطنا مهما ارتفعت الأعمدة والقصور. ولعل أعنفَ ما قيل في التأنيب قول والدة “ابو عبد الله محمد الثاني عشر” آخر ملوك الأندلس لابنها يوم سقطت غرناطة فبكى: “ابكِ مثل النّساء ملكًا مُضاعًا، لم تحافظ عليه مثل الرّجال!”. وجاءت قصائد المراثي عفويةً من قلب الوقائع، وكان محورها الأول سلبيات مجتمع الأندلس، وما انغمس فيه النّاس من اللّهو والتّرف والمجون، فكان لأدب المراثي رسالة معاكسة لرسالة الموشحات والأزجال. وهو من الأغراض الأدبية المحدثة، ذلك لأن الجاهليّ لم تكن له مدنٌ يبكي على خرابها. أشهر المراثي على الأطلاق نونية “أبو البقاء الرندي”، ترثي الأندلس في مجموعها مدنًا وممالكًا، تصور ما نزل على تلك البقاع وأهلها من خطوبٍ جليلة .
شهادة الأدب الأندلسيّ للتاريخ:
ظلّ الحضور العربيّ في الأندلس _ثقافةً وفكرًا_ بارقة أمام الدراسين و الباحثين الجدد لمعرفة الامتدادات الحضارية التي عاشتها الأمة لما يزيد عن ثمانية قرون هناك. بين المد و الجزر كثيرٌ من المياه عبرت تحت الجسر، بزغت صفحات من الإشراق المستفيض بالأدب والفكر، لتلقي بظلالها على هزائم وإخفاقات قاتلة ومتتالية. أحداثٌ لا يمكن تكرارها خلدّتها التدوينات، فمن العسير جدًا _ربما المستحيل_ أن يتقاطع الزّمان و المكان في تلك البلاد من جديد.
المراجع:
- تاريخ الأدب الأندلسي_محمد زكريا العناني (كتاب)
- الموشحات الأندلسية_ أحمد هيكل (دراسة)
- الزّجل الأندلسي بين النشأة و التطور_جمعة حسين يوسف (دراسة)