بين لا لا لاند والچوكر؛ ما الذي تعنيه السينما حقًّا؟

العام 2016، جدل شديد يشتعل بين محبي الأفلام عن فيلم لا لا لاند (La La Land) بعد خروجه من حفل الأوسكار بست جوائز وحاصدًا العشرات في الجولدن جلوب والبافتا وغيرهم. أثار هذا الكم الهائل تساؤلات الجميع، وبعد عرضه بالسينمات انقسم الجمهور قسمين؛ إما معجب بالفيلم بشدة وإما كاره له بشدة ويتبنى نظرية المؤامرة، وتحذلق النقاد الذين منحوه الجوائز، فريق يتحدث عن روح السينما الحقيقية التي أظهرها الفيلم وآخر يعيب عليه تكرار القصة والحبكة وغياب المعنى، هكذا؛ لا وسط. ساعتها قررت ألا أشاهد الفيلم حتى انتهاء تلك العاصفة وخروجه من قائمة “التريند”، وهكذا بعد عام وبجودة عالية على الإنترنت جلست أشاهده وقررت أنه من أفلامي المفضلة و “يستاهل الضجة اللي معمولة عليه فعلًا”.

يتشابه الموقف أعلاه مع ما حدث بعد عرض الچوكر (Joker) في السينمات إلا أن الإعلان الترويجي للفيلم الذي سبقه بعدة أشهر وكذلك رسوخ شخصية الچوكر في أذهان المشاهدين لأجيال متعاقبة، جعل هذا الترقب وتلك الحالة من التحفز أشد بكثير، ومثل المرة الأولى قررت أنني لن أشاهده حتى يخمد كل الزخم، وعلى الرغم من استمرار عرضه بدور السينما لكن تقريبًا شاهد الجميع الفيلم وتصارعوا لإثبات وجهات نظرهم وانتهوا، وكذا جلست أمام الشاشة الكبيرة منفتحة على كل الاحتمالات.

خرجت من الفيلم بمشاعر متناقضة، وموقفين أحاول التوفيق بينهما، بين رؤية أحببتها وتنفيذ خذلها كثيرًا وخذلني، وتحديدًا في نقطتين؛ الأولى هي إعطاء مساحة كبيرة جدًّا حتى يحدث التحول أو الانفجار في شخصية “آرثر” الأمر الذي أصابني بالملل وكذلك الإرهاق لتعرضي معه لكل تلك الخيبات. وأقصد بالمساحة الفترة الزمنية من الفيلم وليس التركيز عليها، كان يمكن اختصار مدة هذه المشاهد بحيث تقل مدة الفيلم نصف ساعة تقريبًا وما كان تأثيرها ليقل بل كان سيزداد. وإن كان الإفراط فيها بهدف إثارة التعاطف، إلا أنني أرى أن الوضع لا يستحق فيكفي أن أرى أول مشهد يتعرض فيه آرثر للضرب، يكفي أن أراه متكورًا على نفسه، ونحوله وجسده الضامر، وتساؤله بحزن “هل هذه مشكلتي أم أن الجميع يزدادون جنونًا؟ “

النقطة الثانية؛ الاعتماد بشكل رئيسي على أداء واكين فينيكس وعلى الموسيقى باعتبارها البطل المساعد، عدا ذلك فالسيناريو مليء بالثغرات والأسئلة التي لم تُطرح أصلًا، ويمكننا استثناء روبرت دي نيرو من هذا الضعف وإن كنت أعتقد أداءه كان قويًّا لأنه دي نيرو، وليس لأن شخصيته كُتبت ووُظفت كما يجب. في رأيي أن هذه الثغرات كوّنت جمهور المعارضين الساخطين على الفيلم؛ إذ شحنهم ببطء وملل تجاه انفجار غير منطقي، ولم يتعمق كفاية في إخبار قصة الفيلم بعيدًا عن آرثر.

على الرغم من ذلك لا يمكنني الإنكار؛ لقد أحببت الفيلم! وجدت فيه العديد من الدلالات والإسقاطات النفسية والسياسية، أعجبني نقده اللاذع للمجتمع أو السلطة التي تعرض نفسها متحدثة باسم المجتمع وهي لا تأبه له، ولا تعرفه بل وتحتقره، سلطة غارقة في أكوام من القمامة والجرذان القذرة. سُلطة متأنقة متعطرة تحرم الناس من كل شيء فيكون التهذيب رفاهية فادحة الثمن. تقول صديقتي أن الجديد بشأن الفيلم واختلافه عن أي مقاربة لشخصية الچوكر هو تقديمه الشخصية قبل وبعد أن تضع القناع، أختلف معها؛ في رأيي أن الچوكر كان دومًا آرثر والتطورات أدت فقط لإطلاق سراحه وليس خلقه.

بين چوكر وآخر

مال الكثيرون لعقد مقارنات بين چوكر ليث هيدجر، الذي يحضر للذهن دومًا عند استدعاء الشخصية، وچوكر فينيكس، وأرى المقارنة صعبة أو هي مقارنة للنفي فقط؛ قد يحمل الاثنان نفس الاسم ويضعان نفس الأصباغ، لكن هذا لن يجعلهما نفس الشخصية. الچوكر الذي قدمه لنا نولان كان يليق بالعام 2008 والچوكر الذي قدمه فينيكس يشبه عالم 2019. عندما أشاهد فارس الظلام The) Dark Knight) أكون دومًا مشتتة الإعجاب بين باتمان والجوكر؛ كلاهما شخصية ساحرة جديرة بالإعجاب، ولكن هذا الچوكر لم يحز على إعجابي، ربما التعاطف والكثير من الشفقة لكن أيًّا منهما لم يتحول لإعجاب بالشخصية.

لفت انتباهي سؤال آرثر “هل أبدو لك كمهرج يمكنه إشعال حركة احتجاجية؟! “ وتشابهه مع تساؤل ليدجر “هل أبدو لك رجلًا يملك خطة؟ “ وبينما كان آرثر صادقًا إلا أن الچوكر كان كاذبًا في كل حرف فهو فعلًا قد لا يبدو رجلًا ذا خطة لكنه خطط لكل شيء، كان يعرف بدقة متى سيتحرك وكيف، استخدم كل سطوة العصابات لمصلحته وتلاعب بالجميع وبرع في ذلك، حتى أنه كان محيطًا ببعض من علم النفس الاجتماعي استخدمه محاوِلًا قلب المجتمع على بعضه وتلطيخ يد الجميع بالدم. بينما آرثر لا يملك أية فكرة عما يفعله، إنه حتى لا يملك معرفة كافية بنفسه، هو فقط قتل ثلاثة أوغاد ثملين تحرشوا بفتاة ثم أوسعوه ضربًا، صادف أن الأوغاد الثلاثة كانوا أثرياء مرموقين، بالصدفة أضفى الناس معنى أعمق على قتلهم، كأنه كان مخططًا ومقصودًا ويهدف إلى بعث رسالة، كأن من قام به“ الچوكر”.

جوثام تبحث عن مدمر!

يصيبونك بالمرض العقلي، يقطعون عنك الدواء، يسخرون من مرضك، يوسعونك ضربًا وركلًا، يفصلونك من العمل ثم يطالبونك بكل وقاحة “كن سويًّا”. هذا ليس آرثر، إنه القاعدة العريضة من الشعب، إنه نحن، وقد رأينا آرثر يفعل ما عجزنا عن التفكير به، كأنه قابيل يرتكب الجريمة الأولى دون وعي منه، يتخذه الآلاف ذريعة لبدء عاصفتهم التدميرية. في “بداية فارس الظلام“ يرفض باتمان أن يكون الطريق لإنقاذ جوثام بإحراقها ويقول أن الخير هو الأغلب ولكنه عاجز، في الجزء التالي حين يواجه الچوكر يراهن على أخلاق المجتمع ويكون محقًّا. لكن تخيل معي الآن الچوكر وباتمان معلَّقين في الهواء، ركاب العبارتين سيفجر كل منهما الآخر وسيلقي باتمان نفسه من هذا الارتفاع الشاهق. هذا هو ما فعلته بنا 11 سنة فصلت بين چوكر وآخر، لقد استعصت جوثام على الإصلاح بحيث لا يمكن إلا تدميرها والبناء من جديد.

الجوكر؛ نحن

ربما لهذا أحببت الفيلم ولم أحبه، لأنه عنا، إنه جوكر يشبهنا؛ جوكر لم يستطع حتى حين القبض عليه أن يخرج رأسه من النافذة بفرح، بل جلس مضموم الكتفين ينظر مشدوها لحراك الجماهير كأي مشاهد، فهو لم يصنعه، الجماهير صنعت الحراك ومعه الجوكر الثائر الفيلسوف بينما هو مجرد قاتل بالصدفة.
أراه في بداية الفيلم يصعد هذا السلم الطويل يحمل أدويته فيذكرني بسيزيف وهو يصعد الجبل حاملاً صخرته، وقبل النهاية ينزل السلم نفسه راقصًا فيبدو لي سيزيف وقد نجح في مسعاه أخيرًا، وضع صخرته على قمة الجبل ونزله متخففًا منتشيًا. يرقص في النهاية فيبدو لي من موقعه فوق الجميع هشًا ضعيفًا؛ لو مسح أصباغه وتوقف عن الضحك لسحقته الجماهير في الحال، هو مسخ يشبهنا، انتصاره ضعيف مثلنا، والسلطة بعد أن قتلت كل خصومها النبلاء وسحقت أرواح البقية لم يبق لها سوى مهرجين ثقيلي الظل، خدعتهم الوحيدة تدمير الأشياء ثم عدم إعادتها لما كانت عليه.
بعد كل هذا العنف لم يتغير شيء حقًا، ربما الأمر الجيد الذي حدث أنه باحتجاز آرثر في المستشفى عاد لتناول أدويته؛ الأدوية التي تركته سعيدًا في جنته البيضاء لا يأبه لشيء وإن كانت قدماه تحملان الدم.

ما الذي تعنيه السينما؟


الخلاف حول ما يجب أن تكون عليه السينما لا يتوقف. هل السينما الحقيقية التي تحتفي بالواقع أم بالجمال؟ في La La Land صنع المخرج عالما يمزج الواقع بالخيال. قصة حب، فاشلة نعم لكنها مغلفة بألوان زاهية وموسيقى من السماء حتى لترغب أن تعيش قصة مثلها ولو انتهت بكسر قلبك. بينما يرى البعض أن الجوكر مجرد فيلم “كوميك” لا مكان له وسط الأعمال السينمائية الحقيقية، وأن المشاهدين هم من أعطوه حجما أكبر. وفي رأيي أنه مرآة للواقع وهو كذلك لم يخلُ من تقنيات جمالية في التصوير والإضاءة واستخدام الألوان والموسيقى.
تعريفي للفيلم الجيد هو الفيلم الذي لا يتركني عند انتهائه وأستطيع مشاهدته عدة مرات واكتشاف جوانب جمال جديدة فيه كل مرة وقد كان La La Land كذلك؛ لقد قدم السينما بما هي ملاذ آمن وملجأ من قبح العالم، حب ورقص وموسيقى مذهلة، أعود له كلما أحسست بالحزن والضيق من العالم فلا يغادرني إلا وأنا سعيدة.
وقدم الجوكر السينما بما هي معالجة للواقع وصرخة استغاثة تهزك لتعيدك إلى الأرض، وتقول لك هذا أنت وهذا هو المستقبل، فماذا أنت فاعل؟! وإن كنت أعتقد أنه يكفيني النظر من شباكي لأشاهد الجوكر ثانية إلا أنني قد أعود له عندما يطول بي التحليق في سماء La La Land !