الفن والرأسمالية

Comments 0
الموقع Independent
تاريخ النشر21/5/2016
الكاتب  Nikki Petroni
العنوان Art and Capitalism

  ركَّزتُ في مقال الأسبوع الماضي على الاستغلال الإيجابي للنظام الاقتصادي الحالي من أجل تنمية الثروة الفنية للدولة. وأُقِر أن لهجتي قد تكون تفاؤلية إلى حد ما لأنه على الرغم من إيماني أن الحلول البسيطة وجِدَت من أجل الحفاظ على المعايير النوعية للفنون في واقعنا الذي يسيطر عليه الماديات، ثمة شعرة تفصل بين الاستثمار في الفن والثقافة لتعزيز التثقيف والازدهار الثقافي، وبين إنشاء ما أطلق عليه ثيودور أدورنو “صناعة الثقافة”، أمّا  عن المصطلح الأخير فيدل على استيعاب الثقافة في خطوط الإنتاج بالمصانع والتي صُنعت لزيادة الأرباح فقط.

يسود النظام الثقافي اليوم مشكلة الاعتماد على النتائج القابلة للقياس الكمي، وعلى ذلك فإن الطريقة التي تؤدي لخلق صناعة الثقافة هي الأموال وأعداد الزائرين التي أصبحت بمنزلة قوة دافعة للاستثمار المالي في مشروع فني أو ثقافي.

 ولقد تناول أدورنو ومعه الكثير من المفكرين مثل (والتر بنجامين وسيجفريد كراكور) 

الأخطار الكامنة في هذا المجال من تطور الرأسمالية في النصف الأول من القرن العشرين.  لأنهم أدركوا أن الرأسمالية كانت تهدف إلى التجانس الثقافي باعتباره جزءًا من عملية البيروقراطية ومن ثَم كانت تتعامل مع الثقافة كمنتج يمكن تسويقه لكي يُستهلَك ويُتجاهَل  دون الحاجة إلى معرفة تُذكر، كما هو الحال في كثير من أفلام وبرامج هوليوود التي نستهلكها اليوم بأنفسنا.

  يقول أدورنو أنه “يجب على الرجال غير المُهتمين أن يقبلوا ما يقدمه لهم المفكرون” وقد أوفى النظام الرأسمالي بوعده بمنح أوقات الفراغ، ولكنه أنتج أنشطة تضمن دوام تداول الأموال وانتشار المزيد من الصناعات وذلك من أجل أن يحافظ على نفسه. ومن هذا المُنطلق أقيم بالفعل معرض للفن المعاصر٢٠١٤ في فيينا بعنوان “طرق جديدة لعدم فعل أي شيء” والذي يدعو لرفض العمل لأن يصبح العمل مُثمرًا ومُبدعًا.

إقرأ أيضًا: قوة المال في صناعة الابتذال

تُهاجم الرأسمالية الأساليب الجمالية باستمرار بسبب عدم نفعها، فعلى سبيل المثال ومن المفارقات التي حدثت في المعرض أن الأعمال الفنية التي ادّعت رفض قواعد السوق كانت جزءًا من سوق الفن المعاصر الذي لا مفر منه، وهو تناقض لا يمكن تجنبه في مجتمعنا.

ومع هذا فلقد قَدّمتْ الرأسمالية للفن أشياءً لا تُصدّق، فشهدنا -على سبيل المثال وليس الحصر- بيكاسو ودوتشامب ولوسيو فونتانا وهنري مور وروبرت روشن برج واندي وارهول و جيرهارد ريختر وانسيلم كيفي و بيل فيولا؛ إضافة إلى المؤلفين والمثقفين والمفكرين النقديين الثوريين، ناهيك عن كل المخرجين والمنتجين العظماء.

 إن القرن العشرين أحد أكثر الفترات إثارة وحيوية بسبب وفرة الحدود الفكرية الإبداعية التي استُكشِفت وحُطّمت، وبالمثل ازدهر الإنتاج الفني في مالطا مع ازدهار الرأسمالية وكان تحرير الفن من الاقتران الوفي  بالكنيسة والذي استمر لقرون بمنزلةٍ، ردًا من الفنانين على ظروفهم. مازالت هذه العلاقة موجودة على مدار قرون عدة ولكن لم تعُد سائدة. أما الدين فظل في الفن المالطي الحديث والمعاصر، فكان منفصلًا تمامًا عن أساسه الأيديولوجي. سادت فكرة أن الفن المقدس هو أسمى أنواع الفن في مالطا لقرون وحين بدأ أن يتغير هذا الإتجاه، تحدّى بعض الفنانين التعريف التقليدي والقيم الخاصة بالفن في مالطا. 

  أعطت الرأسمالية الفن الفرصة للحصول على الحكم المُستقل عن نظام المحسوبية في الكنيسة ناشرة بذلك قِيمًا جديدة، وفكرة الحرية الفردية باعتبارها جوهر العملية الإبداعية. أصبحت التسوية الفنية التي أعلن عنها ايميفين كريمونا شيئًا من الماضي بما أن أعماله خضعت للوائح وضعتها سلطات الكنيسة. كان من الصعب فهم ما قام به أوستن كاميليري قبل عشر سنوات فقط أو أقل، فاستطاع أن يبني جدارًا خرسانيًا أمام مذبح الكنيسة في مدينة جوزو في الأسبوع المقدس عام ١٩٨٨ فيما عُرف بمعرض “أوستن المقدس”. كانت كاتدرائية المدينة للفن البينالي المُعاصر للعام ٢٠١٥-٢٠١٦  بمنزلة تحدي المنظور الثقافي التقليدي.

  فيما بعد، اتّجه الفن المالطي للعلمانية بقوة في بلدان أوروبية أُخرى؛ بسبب السيادة الأخلاقية في الكنيسة محليًا. فالعلمانية النفعية للرأسمالية تتعارض مع العقيدة الدينية، لكن النظامين تزامنا في مالطا في القرن العشرين مما أدّى إلى توترات حادة وصراع سياسي مضطرب من أجل الهيمنة. ينعكس ذلك في الصراع الفني الذي حدث في منتصف القرن، صمم العديد من الفنانين على خَلق فن جديد لكن بعد الحصول على موافقة من رجال الدين. انخفضت أهمية وجود دروس أخلاقية مستفادة من الفن منذ أواخر الستينيات من القرن الماضي، وبدأ الفنانون تدريجيًا في مواجهة المؤتمرات التي سمحت بوجود التقاليد الفنية ضمن المحتوى الحديث. وتتجسد هذه التغيرات في أعمال جوزيف كاليا وغابرييل كاروانا وقيصر أتارد ورافائيل فيا وفينيس بريفا وغيرهم. 

واستمرت الرأسمالية في التطور على مستوى العالم، وأصبحت ليبرالية بشكل مُتزايد في طرقها لكسب الأموال والحصول عليها، وبالطبع يشكل اقتصاد مالطا جزءًا من هذا النظام. وقد توسّع العالم الفني نفسه ليصبح عالَمًا تجاريًا وارتقى مدى السوق الفني بسرعة الصاروخ. أكد الدكتور جوسيبي شيميري بوناتشي في مقاله عام ٢٠١٢ على أن الرأسمالية في مالطا تدخل حاليًا في مرحلة سمّاها “مرحلة العدوانية العنيفة” ما يعني أنها لم تعد معزولة، وباطنية المظهر بل على النقيض، حيث أصبحت تؤثر بالخارج. ويمكن أن يشهد على هذا الحال الوضعُ السياسي المضطرب في الآونة الاخيرة والذي يتسّم بتبني سياسات نيوليبرالية عالمية. 

ويتساءل شيمبري بوناتشي بحنق عما إذا كانت القيم الرأسمالية النيوليبرالية التي انتشرت قد نجحت فعلًا في إثارة طفرة في جودة الفنون، وأتفِق معه للغاية في أن هذا لم يتحقق بعد؛ فلم يجد معدل نمو الرأسمالية حتى الآن انعاكاسًا مساويًا له في الفنون. وأشعر أن العديد من الفنانيين تراجعوا عن استغلال ما يحدث في الوقت الحالي. وتبقى قبضة التقاليد متجلية حتى بين الجيل الأصغر الذي يفترض أن يكون شجاعًا. بالإضافة إلي ذلك فإن فكرة وجود سوق فني في مالطا ما زالت حديثة رغم وجود الكثير من الفنانين الناشطين والعاملين في المجال الثقافي. 

ويتضح أن التوترات الأيدولوجية بين النظرة العالمية التقدمية وبين النظرة التقليدية لا تزال جزءًا من الثقافة المالطية. وسيؤثر هذا الموقف بالتأكيد على كيفية استفادة البلد من الظروف الحالية من أجل تحسين الموارد الثقافية والفكرية، ففي الوقت الذي تفتقر فيه مالطا لصناعة ثقافة أدورنية أصيلة، لم تدرك البلد بعد، أن ثمة حاجة إلى استثمارات ضخمة لتحسين الوضع الدولي للبنية التحتية الثقافية بأكملها.