أبيض وأسود.. مُحاولة اختصار الرأسمالية
دائمًا ما كانت محل أنظار ودائرة جدال وصراع بين الدول، قُسم العالم على أساسها وشُيدت الأسوار بين المجتمعات -وحتى بين المجتمع الواحد- على أساسها أيضًا، أتحدث عن فلسفة الاقتصاد والمجتمع والصراع بين المعسكرات، وأبرزها الصراع بين الرأسمالية والشيوعية. لا يتسع المجال للحديث هنا عن جميع تلك الفلسفات والأنظمة، ولعل الإبحار فيها مستقبلًا ممكن، ولكن نكتفي في هذه السطور بمحاولة الحديث عن النظام الرأسمالي باختصار مُخل، ولكن لعله شيق، وهو موجه في معظمة للشغوف غير الخبير.
خطوط عريضة
تقوم الرأسمالية في جوهرها على فكرة الملكية الخاصة للوسائل الإنتاجية، وذلك على عكس الشيوعية التي فيها تملك الدولة وسائل الإنتاج وبالتالي تكون هي المتحكمة في عناصر الإنتاج والسوق والتوظيف…إلخ، كما تقوم على تشجيع روح المبادرة والمنافسة وتقسيم العمل وتخصيص الموارد حسب آلية السوق (أي كمية المنتجات وتعدد أنواعها وأسعارها)، فهي تعتمد مبدأ السوق الحرة، أي تحديد الأسعار والإنتاج تبعًا لمبدأ العرض والطلب وحركة السوق، وتُقسم أيضًا الرأسمالية المجتمع إلى طبقتين رئيسيتين: مالكي وسائل الإنتاج (أصحاب رأس المال)، والعاملين، وهي أيضًا المنظومة الاقتصادية السائدة في الغرب.
أبيض وأسود!
ربما هو أحد قوانين الحياة؟!، نادرًا أشد الندر ما تجد الخير كله دون سوء، أو الشر كله متجسدًا دون خير في أي شيء طالما الحياة قائمة، إلا أن واقع كثير من الناس في اعتبار الأشياء والتفكير فيها ينزع كثيرًا من الأحيان إلى التصنيف على أساس الأبيض والأسود والخط الفاصل بينهما، لربما هو مسحه من الجهل أو اتخاذ السهولة طريقًا، فكل شيء عندهم إما معنا أو ضدنا، أبيض وأسود، ومن أشد ما ينطبق عليه هذا الواقع هو موضوع نقاشنا، فتجد المتحدث -غير المثقف- ينزع إلى الرأسمالية بكل ما فيها ويحولها إلى ما يشبه الصنم، فهي عنده نموذج فريد فيها الخلاص من كل سوء، ويسعى لنقلها بكل ما فيها من غث وسمين و “أبيض وأسود”!، والعكس أيضًا صحيح.
صفحة بيضاء
“لولا الرأسمالية ما كانت النهضة التي نعيشها اليوم” يزعم احدهم!،
ولعل لزعمه شيئًا ليس بالقليل من الوجاهة، فروح المغامرة والمنافسة والمبادرة والإبداع، تلقوا الدَفعة الأكبر لهم مع ظهور الرأسمالية، ولعل هذا أعظم إيجابياتها، عن طريق الوعد بالثراء و المكانة الاجتماعية المرموقة والسطوة، تَدفع الرأسمالية الروح و العقل الإنساني إلى مستويات مرتفعة من الإبداع والدافعية و الرغبة في إحداث التغيير، ومع هذه التركيبة تظهر الإبداعات والاختراعات الجديدة لحل كثير من المشاكل العالقة أو ترفع من الرفاهية بشكل عام.
يُجادل منظروا الرأسمالية على القول القائل بأن: “الأنانية الفردية تتزايد طرديًا مع الرأسمالية”، ففي رؤيتهم أن الفرد في المجتمع وفي ظل سعيه للمنفعة الشخصية، فهو يقدم خدمة للمجتمع بنتاج أفكاره وإبداعاته واصطلحوا على تسمية هذا المبدأ بـمبدأ (اليد الخفية)، فعندما يسعى رائد الأعمال أو صاحب رأس المال في طريق منفعته الشخصية وبناء شركته وحلم ثروته، فإنه سيدفع نحو توظيف عشرات ولربما المئات، وسيدفع بعجلة الاقتصاد والناتج القومي بصفة عامة إلى الأمام، وهي رؤية فيها أيضًا الكثير من الوجاهة!
ولما كان صاحب رأس المال هذا حريصًا على أمواله التي انتفت عنها صفة العمومية، فهو لن يوظف إلا أصحاب الكفاءة والأنسب للعمل، هنا تنتفي أسس التوظيف بناءً على العلاقات الشخصية. صفعة للواسطة؟!، ربما!
الرأسمالية دافع للازدهار والتقدم إذًا؟
لربما! ولكن لكل شيء ثمن.
الأسود صفحات
لعلها أبرز آثار الرأسمالية: “المادية”، بالتدريج وبخطى ثابتة يتحول كل معنى وكل شيء في الحياة إلى سلعة بمقابل مادي، في ظل هكذا عقلية، تختفي تدريجيًا المشاعر والعواطف والأخلاق والقيم والتقاليد والدين والفن والجمال وحتى الإنسان، ويتحولوا جميعًا إلى سلع، يتحول دافع تحرك الإنسان إلى منطق الحسابات والربح و الخسارة المجردة، و تُلغى جميع الدوافع دون المادة.
تحت ظل الرأسمالية، تتقطع الروابط شيئًا فشيئًا ويحاصر الفرد في عزلة، هو هنا رقم للحساب وقضية للعلاج، يُنظر إليه كالآلة، مادامت تُدير الأموال فهي صالحة ومن دون ذلك فهي والعدم سواء، هنا أيضًا تتحول الحياة إلى دائرة مغلقة تكاد تخلو من المعاني، أنت محبوس في تلك الدائرة لا تستطيع أن تخرج والتوقف ليس خيارًا حتى!.
هل تذكر “مبدأ اليد الخفية”؟، أليس فيه تترافق المصالح الخاصة مع العامة؟، حسنًا، ولكن إلى أي حد؟!، في واقعنا المعاصر طغت المصالح الخاصة على العامة، ولم يعد في كثير من الأحيان السعي إلى المصلحة الخاصة بمساعد للعامة بل هو هادم وليس فقط بغير مساعد، ربما الأنانية والجشع الإنساني في النهاية أقوى من كل ما عداهم من الغرائز والصفات عند كثيرٍ من البشر في ظل غياب الوازع الأخلاقي والديني.
تُشجع الرأسمالية أيضًا “الفردية”، في “الفردية” يتم تقديس الفرد و تحريره من جميع القيود -في كثير من الأحيان- على حساب المجتمع، و”الفردية” أحد أسس الثقافة الغربية الليبرالية، ورغم مالها من بعض الميزات إلا انها تأتي إلى حدٍ بعيد على حساب المسؤولية الاجتماعية، ويعزو كثير من المثقفين (كثير منهم من الغرب) الجزء الأكبر من موجة الانحلال الأخلاقي و التقاليدي إليها، وأيضًا ينسب إليها المساهمة في تفكيك أقدم المؤسسات الاجتماعية التي وُجدت منذ فجر التاريخ: “الأسرة”، فأصبحت العائلة مرتبطة بالحياة و الإنتاج المرتبطين بدورهم بالمؤسسة الاقتصادية.
ولربما من هنا جاء القول بأن ” الاقتصاديين لا يفضلون التعامل مع الأسئلة الأخلاقية”!
رمادي
إذًا، سؤال بسيط، هل الرأسمالية جيدة أم سيئة؟، الجواب البديهي: مثلها مثل غيرها فيها الكثير من الخير وأيضًا الشر!، لعل الحل يكمن ببساطة في “التصفية”، لربما علينا أن نأخذ من الرأسمالية ما يناسب ثقافتنا، وتاريخنا، وأخلاقنا، وديننا، ومجتمعنا، التطرف في أي شيء يُفسدة، وحكمتنا القديمة” ما زاد عن حده انقلب ضده” فيها تذكير ليِّنًا بمبدأ الحياة البسيط هذا.
غالت الرأس مالية الغربية في تقديس المال و “تسليع” كل شيء حتى يكاد لا وجود لاستثناء، فزاد الانفصال عن معاني الحياة وتفككت وحدات المجتمع -كالعائلة- شيئًا فشيئًا على حساب “الفردية”، فأزعم أن زاد المال والسعادة اللحظية المرافقة لكسبه أو صرفه على حساب السعادة الطويلة، وراحة النفس والبال.