هل تنشأ الحرية من قيود الرأسمالية؟
هل يمكن أن يكون الظلام طريقاً للنور؟ بل هل يمكن له أن يكون سببه والمرشد له؟ هل يكون الظلم أساس وجود العدل؟ كيف للمرء أن يصدق ويؤمن بأن الحرية يمكن لها أن تخرج من الاستبداد؟ بل يكون الاستبداد والظلم هو السبب الحقيقي لظهورها وانتشارها! كيف له أن يؤمن بأن المعرفة يمكن لها أن تخرج من منابع الجهل؟ كيف لظلمٍ حقيقي ولقلوب عمياء أن تكون في حد ذاتها هي المخرج الرئيسي منها !
نعم فالحرية لايعرف معناها أو يدرك قيمتها إلا من ذاق مرارة الأغلال، ولا يسعى إليها إلا من احترق بقيودها. نعم فلا يدرك المرء مابيده إلا بعد فقدانه أو التعرض لنقيضه. حينها فقط يدرك جيدا أن ما ضاع منه ما كان يسعى إليه في الأساس، ولكن هل يعي أن للظلم والجهل الذي لا يكاد يطيقهما ويشكو منهما مر الألم من الممكن جدا أن يكونا الأساس والسبب في الهناء والأمل والهدف الذى طالما يحلم به!
“دائما ما ينبع النور من الظلام” حقيقة عبرت عنها جملة واحدة، نعم فهذا ما يحدث دائما مع الشعوب، فلم يظهر الفكر الاشتراكي ولم ينتشر إلا بعد سيطرة الرأسمالية وقواها العظمى وسيطر ظلمها على المجتمع، فلم يشعر الأفراد بأهمية البحث عن فكر آخر يخدم احتياجاتهم وظروفهم إلا بعد أن لمسوا بل عاشوا واقع الرأسمالية وتحكمها البغيض على حياتهم.
فبعد أن كانت الرأسمالية فكرة عظيمة وهدفاً نبيلاً سعت إليه الشعوب في البداية، وتحالفت المجتمعات على تكوين نظامها، الذي من المخطط له أن يسعى لمصلحة الأفراد، ويعززالملكية الفردية لهم والحرية الاقتصادية والمنافسة، وحرية التصرف واتخاذ القرار، وكل هذه الأمور التي من شأنها أن تجلب الخير وتعمل على بناء مجتمعٍ فاضل، المجتمع الذي كان يسعى إليه الأفراد في سعيهم وراء هذا النظام، إلا أن هذا كله انقلب على النقيض، فإذا كان المجتمع الرأسمالي دائم التغني بفكرة الحرية الفردية والملكية الفردية فإن الممارسة الفعلية لفكرة الحرية توضح أنها للأغنياء فقط من القوم وليس للفقراء أي حق، الحرية التي كانت الهدف الأساسي اتضح أنها فقط للأغنياء ولمن يملكون المادة، وبعد أن كانت الحرية الفردية والملكية الفردية من أهم مميزات الرأسمالية أصبحت من أهم المعوقات والانتقادات التي يمكن أن توجه لها، بالفعل فهذا ما يفعله الاستخدام الخاطئ للفكرة، وما تنتجه السيطرة البغيضة على المعتقدات، فما كان من سوء استخدام فكرة الحرية والملكية إلا أن أنتجت البغض والحقد بين الطبقات داخل المجتمع وتفكك الروابط الاجتماعية التي كان من الأصح أن تنمو مع هذا الفكر.
ما أسوأ ما أنتجته الرأسمالية في المجتمعات بل في الشعوب! بل ما أقبح ما تحدثه بين أبناء أمة واحدة كان من الممكن تكون واحدة بالفعل، ولكن بفضل هذا الفكر انقسمت وتحولت إلى طبقات يحقد بعضها على بعض، ويتمنى كل منهم أن يحل الأسوأ بأخيه، يظن أن سر نجاته في هلاك الآخر، ما أسوأ مجتمعا كهذا لا يسهم في البناء بل يسعى لدمار وفساد الآخرين! مجتمع يسيطر فيه الأغنياء على كل مقومات الحياة الاقتصادية والاجتماعية ما أن يمتد نفوذهم وسلطانهم إلى كل شيء، حتى إلى التحكم في مصير الأفراد والشعوب والأمم، المنافسة هدف آخر من الأهداف التي انقلبت على النقيض في النظام وأصبحت هي الاخرى من أهم الانتقادات التي أصبحت توجه له، فسرعان ما انتقلبت إلى نوع من الاحتكار الذي يسيطر به صاحب المادة ويتحكم في العملية بأكملها، فانضمت هي الأخرى إلى سلاح ذي حدين، بالأحرى سلاح ذو حد واحد يحمي مصالح ذوي النفوذ.
بعد أن كانت الرأسمالية هي النور والحرية والأمل الذي تسعى إليه الشعوب لتحقيق مجتمع فاضل، يحمي مصالحهم ويساعد في تحقيق أهدافهم، أصبحت السجن وتفننت في رسم القيود حتى لا يستطيع أحد الخروج منها، ولكن كيف لذلك أن يحدث؟ وكيف لها أن تحكم سيطرتها وتظن أن لا خلاص منها أمام أفراد قاموا ببنائها؟ فكما لا يوجد نور دائم لا يمكن أيضا لظلام أن يستمر أبد الدهر! نعم هذا في الحقيقة ما أسفرت عنه التجربة،عندما يظن المرء أنه لا خلاص وأنه استسلم، يوقن بأنها البداية لشئ جديد هو الأمل والهدف الجديد الذي يسعى إليه.. لا يوجد شخص بلا هدف، ولا تنتهي الأهداف والآمال طالما ظل المرء على قيد الحياة، فهي إذن حقيقة مقولة “أن أساس أي إختراع هو عدم رضا المخترع عما هو كائن، ورغبته في تغييره بشيء آخر” وأن النظم الإجتماعية لا تختفي فجأة أو تظهر فجأة دون وجود مظاهر لها في النظم القديمة، فكل نظام يحتوي ويحمل في طياته تراثا لنظم قديمة تطورت، كما أن النظم الحالية تحمل في طياتها أساسيات لأنظمة جديدة “، فهذا بالفعل ما حدث مع النظام الرأسمالي حيث كان للنظام الإقطاعي السابق له سبب في ظهوره، كما كان له سبب في ظهور الاشتراكية التي أخذت تحاول أن تمحو كل الطبقات التي خلف النظام الرأسمالي، وتسعى إلى أن تخرج المجتمعات من بيدق الظلام الذي ظلت فيه فترة من الدهر.
ولكن هل يعني ذلك أن المسار انتهى؟ وأن الأمل الذي تسعى إليه الشعوب تحقق؟ بالطبع لا فكما انحرفت الرأسمالية عن أهدافها، كذلك فعلت الاشتراكية، فلا يوجد نظام ثابت أو أمثل، في الحقيقة لا يوجد شيء ثابت أكثر من الأمل والإيمان الذي يمكن أن يتحلى به المرء، وأن بإمكانه تحدي الصعاب، وأن النور لا ينبع إلا من داخله، وأنه المصدر الوحيد لتحقيق هدفه ولا شئ يمكنه أن يتغلب على إنسان مدرك لقوته.
فالحرية دائماً ما تقوى وتظهر تحت تأثير القيود.. فقد لا يدرك المرء قوته الحقيقية إلا في المحن، والإرادة الحقيقية هي السبيل الواضح والطريق القويم أمام كل معوق في الحياة، لذا فليوقن كل شخص أن دائما مايحمل الشر في طياته الخير، وأن الإرادة والعزيمة والأمل هي أسرار الخروج من الظلمة.