الرأسمالية بين الغرب والعرب

Comments 0

لا تَقِل الكشوف الجغرافية في أهميتها عن اختراع الزراعة قديمًا، ولا عن الثورة الصناعية حديثًا، فالكشوف الجغرافية غيَّرت وجه العالم تمامًا من حيث موازين القوى، ونهضت على إثرها أفكار جديدة ثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية، فقد بدأت الكشوف الجغرافية بعدما انكبت أوروبا على نفسها لبعضٍ من الوقت على إثر جراح هزائم الصليبيات في المشرق، وبعدما استكملت بعض وحداتها السياسية وِحْدتها القومية، كإسبانيا والبرتغال، بعد القضاء تمامًا على عرب الأندلس، حيث أصبحا أول القوى الأوربية إستكمالًا لوحدتهما القومية.

كشوف أوروبا الجغرافية

خرجت أوربا تضرب في المجهول، فعادت أولًا بطريق رأس الرجاء الصالح، وبعد اكتشاف هذا الطريق البحري إلى الهند من خلال الاتفاف حول الساحل الأفريقيّ، مستفيدة بنظريات البحارة العرب كأحمد بن ماجه ، وبفكرة “أنه مادامت الأرض كروية فإنه يمكن أن تضرب في المجهول لتعود مرة أخرى إلى نفس النقطة”. وبمجرد اكتشاف البرتغاليين للطريق الجديد حتى أصبحت لأول مرة السفن التجارية تدخل موانئ الإسكندرية وبيروت والبندقية فارغة لأول مرة في تاريخها! ومن تلك اللحظة ورثت البرتغال وغرب أوروبا دور العرب التجاري في العالم، وخصوصًا مصر ودور المدن الإيطالية أيضًا، ثم تلا ذلك اكتشاف الأمريكتين وما تلاه من انقلاب تجاريّ في ميزان التجارة العالمية غير مسبوق.

كانت الكشوف الجغرافية نتيجة لما يُمكن أن نسميه مغامرة (رواد الأعمال) الأوربيين والملوك الذين يطمحون في التوسع والهيمنة، فأمثال كريستوفر كولومبوس وغيرهم من المكتشفين الغُزاة لم يكونوا سوى مغامرين، استثمر فيهم ملوك غرب أوربا أموالهم، وعندما عادوا إلى أوربا بعالَم جديد أصبحت موانئ غرب أوربا هى قلب العالم، الذي أصبح “العالم القديم” وهمزة الوصل بينه وبين العالم الجديد، وما لبثت البرتغال وأسبانيا أن استعمروا أغلب العالم الجديد، ومن بعدهم هولندا وفرنسا وإنجلترا وغيرهم من قوى أوربا الاستعمارية آنذاك، والتي كانت تقوم سفنهم بما يمكن أن نطلق عليه التجارة المثلثية والتي مثلت تجارة الرقيق الآثمة جزءًا كبيرًا منها، شارك فيه بالتحديد البريطانيّون والبرتغاليون وقوى أخرى على مقياس أقل.

التجارة المثلثية

التجارة المثلثية كانت عبارة عن سفن غرب أوروبا التي تنقل المصنوعات الأوربية إلى السواحل الأفريقية، ثم تأخذ الأفارقة السود (بعد أن يتم استعبادهم وتحويلهم لعبيد) إلى العالم الجديد حيث يُسَّخرهم الرجل الأبيض هناك لخدمته وخدمة استعماره الاستيطاني، حيث أباد السكان الأصليين وبدأ في استيطان الأرض الجديدة واستغلال خيراتها، ثم تعود السفن محملة بالبضائع والمحاصيل والمواد الأولية من العالم الجديد لموانئ غرب أوربا مرة أخرى، تجارة مثلثية لم تفقر وتضعف دور العرب التجاري في العالم القديم فقط، بل وخلقت طبقة جديدة في أوروبا من البرجوازيين، الذين أصبحوا يسيطرون على تجارة أوروبا مع العالم الجديد، مما ضاعف من قوة بلدانهم ورخائها الاقتصادي حتى لو كان ذلك على حساب أبشع جريمة في التاريخ، وهي استعباد 100 مليون من الأفارقة، كما يُقدِّر بعض المؤرخين أن مات أكثر من نصفهم في البحار والسجون، نتيجة المعاملة غير الآدمية من الرجل الأبيض في استغلالهم.

الرأسمالية

يعنى ذلك أنه أصبحت هناك طبقة جديدة تنافس الطبقة القديمة (الإقطاعيين) الذين كانوا يسيطرون على مواطن النفوذ في الأوطان الأم، أي أنه صراع بين القوى المحلية وأصحاب الموارد المتدفقة من العالم الجديد، وصل هذا الصراع إلى أشده في الثورة الفرنسية، والتي فتحت الباب  للقضاء تمامًا على النظام الاقتصادي التقليدي في أوروبا (الزراعي الإقطاعي) وسيادة الطبقات البرجوازية التجارية التي تسيطر على التجارة ووسائل الإنتاج، وتخدم به الحكم المطلق في بلادها، ما لبثت أن تحولت بعد اكتشاف البخار في بريطانيا وغرب أوربا

(الثورة الصناعية) إلى طبقة برجوازية صناعية كبرى، تستغل موارد العالم الجديد وتصنع أسواقًا لصناعاتها في مستعمرات العالم القديم، أدَّى ذلك كله لسيادة نظام إقتصادي جديد وهو الرأسمالية، التي اعتمدت على تقديس الملكية الفردية والسوق الحر الذي لا تتدخل فيه الدولة أبدًا، إن السوق من المفترض أن يضبط نفسه بنفسه وهذا هو مالم يكن يحدث لسبب غير معلوم، فإن الثورة الصناعية قد خلقت اقتصادًا مفتوح الشهية، يَنتِج بقوة ليستهلك بشراهة، وهو أبعد مايكون عن الكفاية الذاتية، فلا يمكن لدولة واحدة أو فرد واحد أو مجتمع أن يسيطر على كل وسائل انتاجه وصناعته، لذا كان الاستعمار نتيجة طبيعية للثورة الصناعية، وكانت إبادة سكان العالم الجديد أيضًا واستيطان الأوربيين فيه على حسابهم، وكانت أيضًا الرأسمالية حيث المجتمع التنافسي التوسعي الذي مايلبث أن يبحث عن خامات وموارد، حتى يبحث عن أسواق يصرف ويستهلك فيها صناعاته وتجارته، وأدت الرأسمالية أيضًا إلى ظهور تعارض بين مصالح البرجوازيين (من يملكون) وبين البرولوتاريا (من لا يملكون) وظهور الصراع الطبقي.

تطورت الرأسمالية مع الوقت كأي نظام إنساني له سلبياته وإيجابياته، فبعد أن كانت الدول تنأى بأنفسها عن التدخل في الاقتصاد، ظهرت نظريات اقتصادية اجتماعية جديدة، مناهضة للرأسمالية، كالاشتراكية اتبعتها كثير من دول العالم بعد الثورة البلشفية في روسيا، وسادت الاشتراكية في دول العالم الثالث أثناء موجات التحرر الوطني نظرًا لخوف رواد التحرر الوطني من سيطرة الرأسماليين والدول الغربية على اقتصادياتهم الوليدة، ونتيجة لذلك وللديموقراطيات وضغوط النقابات وجماعات الضغط في بعض الدول الأوربية، ظهرت توجهات فكرية جديدة

(من خلال اليسار الأوروبي) تحذر من الرأسمالية المطلقة والسوق الحر المطلق وأثره على الطبقات الدنيا في أوروبا، وطالبت بقليل من تدخل الدولة لضبط الأسواق ومنع الاحتكار، وغيرها من السبل التي أدت إلى استمرار الرأسمالية إلى يومنا هذا كنظامٍ عالمي سائد، خصوصًا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي الذي تبنَّى الاقتصاد الاشتراكي وكان نموذجًا له، أي جعل اليسار الأوربي الرأسمالية أكثر اشتراكية نوعًا ما، أما النموذج الآخر كالصين فقد جعلت اشتراكيتها أكثر رأسمالية بعدما سقط الاتحاد السوفييتي مع عدم استطاعة الاشتراكية أن تنافس الرأسمالية.

الرأسمالية العربية 

برغم ما ساد الغربَ وكثيرًا من بلدان العالم من الديمقراطية سياسيًا والرأسمالية إقتصاديًا، وبرغم سيادة القانون فى تلك البلدان وضبط الأسواق ومنع الاحتكار، مازالت كثيرمن بلدان العرب تموج في رأسمالية مشوهة، استغلالية إلى حدٍّ كبير، لا تؤدي دورًا حقيقيًا في نهضة البلاد العربية، فلا هي تؤسس لصناعات ثقيلة وطنيًا، ولا هي توفر للبلاد أمانًا اقتصاديًا مرغوبًا فيه، بل تعزز تلك الرأسمالية؛ نتيجة لغياب الديمقراطية وسيادة قانون الاحتكار والصراع بين من يملكون ومن لا يملكون، وتعزز الفوارق الطبقية بين قلة قليلة تتحكم في كل شيء، وكثرة كثيرة لا تملك أي شيء، وهذا له تفسير واضح، فقد انتقلت البلدان العربية مرة واحدة وبشكل مفاجئ من الإقطاع الزراعي إلى الرأسمالية، بدون مرحلة وسط لتكوين طبقه برجوازية حقيقية كما كان الحال فى أوروبا، فالكشوف الجغرافية أهدت أوربا طبقتها البرجوازية التي نمت شيئًت فشيئًا حتى أنهت دورة حياة الإقطاع نهائيًا، بدون اعتماد على الدولة، وبالتالى كان طبيعيًا أن تؤسس هي النظام الاقتصاديَ الجديد، وأن تكون شريكة الدولة والسياسيين في شكل النظام الجديد، أما البلدان العربية فقد عزلتها السيطرة العثمانية عن العالم أولًا، واستغلتها واستنزفتها ثانيًا، وأغرقت اقتصادها بنظام إقطاعيٍّ متخلف ثالثًا، ثم لم تستطع رد الاستعمار الغربي عنها رابعًا، فحينما تحررت البلدان العربية من الاستعمار دخل بعضها في فترة اشتراكية أولًا ثم تحول للرأسمالية، ودخل البعض الآخر فى نظام اقتصادي رأسمالي، وفي كلتا الحالتين كانت الرأسمالية تحولًا سريعًا من الإقطاع للنظام الجديد بدون برجوازيين، فكانت رأسمالية مشوهة مرتبطة بمجموعات مصالح لها علاقة بالإستبداد السياسي في بلداننا، ومرتبطة بشبكات مصالح الغرب ف بلادنا، فلا هي تقدس الملكية الفردية ولا تصنع تجارة وصناعة تمنح بلادنا اكتفاءً ذاتيًا حتى لو بشكل نسبيّ، بل كانت وبلا شكٍّ امتدادًا للسلطة المطلقة والحكم المطلق والفساد والاستعمار الغربي في بلادنا في صورته الاقتصادية.