La La Land | الحمقى الحالمون
“هذا من أجل هؤلاء الحمقى الذين يحلمون، المجانين كما للجميع يَبدون، هذا من أجل القلوب التي تتألم، هذا من أجل الفوضى التي نصنعها”!
حسناً، دعني أرتب أفكاري قليلًا، فالفيلم ممتلئ بالخطوط والمشاعر والأفكار، ومن الصعب تحديد منطلقٍ للبدء، في حالات مثل هذه إما أبدأ بالحديث عن الاسم، أو عن الافتتاحية، ولأنني مرتبك هنا حقًا، فسأبدأ بالاثنين.
إن لم تكن استنتجت ما هي أرض الـ(لالا) فدعنا نتذكر سويًا المشهد الافتتاحي وكيف ومتى نزل اسم الفيلم على الشاشة. تكدُّسٌ مروري، جميع السيارات واقفة تنتظر الفرج، أبواق السيارات تدوي على مدار الطريق، تنزل الموسيقى ويبدأ سائقو السيارات في الخروج منها والغناء، نراهم جميعًا شبابًا جميلًا ممتلئًا بالحيوية، يرقصون في رشاقة ويغنون في مرح وتفاؤل، عن أحلامهم ومدى جمالها وبريقها، وعن أملهم وثقتهم في تحقيقها مهما كانت العثرات، فغدًا يوم آخر تشرق الشمس عليه كما يقولون في الأغنية، كل شيء في الرقصة مبهج وكل شيء ملون، وفي نهاية الرقصة ينزل اسم الفيلم، والمقصود به (أرض الأحلام).

يحكي الفيلم، وأغنية الافتتاحية أيضًا، ببساطة عن فتى وفتاة يحلمون، كل منهما لديه شغف، ويرى حلمه واضحًا كما الشمس، الفتاة “ميا/إيما ستون“ تحلم بالتمثيل في هوليوود وحكاياتها وستوديوهاتها المبهرة، أما الفتى “سيباستيان/ريان جوزلنج” فيجد شغفه في موسيقى الجاز الكلاسيكية الارتجالية، ويحلم بافتتاح مقهى للجاز يقدم موسيقى جاز كما يحبها، وصدور الدجاج!
يقدم الفيلم بطليه ويجعلك تعيش أحلامهما معهما، جميع شخصيات الفيلم لا ترى ذلك ولكنك تراه، ميا في صورة إيما ستون الرقيقة جميلة الملامح والتعبيرات تؤدي في اختبار أداء، أنت ترى بوضوح أنها ممثلة رائعة وأنها تستطيع خطف عيون وقلوب المشاهدين، ولكن الاختبار ينتهي بالرفض فتصاب بالذهول! يعزف سيباستيان في المقهى عزفًا عفويًا من تلقاء قلبه حتى يندمج في العزف فيختفي المقهى والناس ويحلق بنا في أرض فضاء واسعة، ينتهي العزف فنجد صاحب المقهى يوبخه بل ويفصله عن العمل بدلًا من أن يشكره ويقبل يديه اللتين خرج منهما هذا العزف الرائع، تضرب كفاً بكف غير مصدق وتتسائل: هل هذا الرجل أصم؟! هل أصاب هؤلاء المنتجين العمى ؟!
مع كثرة التساؤل تقع في الشك، الشك الذي يقع فيه بطلينا، ومن هنا يحدث التعاطف. ميا وسيباستيان شخصيتان سهلٌ الوقوع في غرامهما، فهما على الرغم من وسامتهما يبدوان مثلنا تمامًا، شخصيات عادية، سيباستيان نعرف في بداية الفيلم أنه مفلس تمامًا، ميا تعمل نادلة في مقهى صغير، هما بدون أحلامهما لاشيء؛ خائبان محبطان، حتى عندما يغنيان ويرقصان فهما ليسا رائعين، ليسا كالراقصين الذين رقصوا وغنوا بمنتهى السلاسة والرشاقة في بداية الفيلم، وهذا من انتقادات الفيلم بالمناسبة، والتي أختلف معها على طول الخط وأراها مقصودة ومبررة بالكامل؛ ليس من الصعب على الممثلين أن يتدربا شهرين آخرين لإتقان الغناء والرقص، وليس من الصعب على المخرج أن ينتقي اثنين آخرين لشخصيتي ميا وسيباستيان، ربما اثنين ممن قاموا بالاستعراض الافتتاحي، ولكن كان من الضروري أن نرى النقص في ميا وسيباستيان ونشعر أنهما ليسا كاملين! ذلك النقص الذي أعطى الشخصيتين صفة البشرية…
من هنا نتفهم جمال لقاء الاثنين ببعضهما، فكل منها أعطى أملًا للآخر، لأنه ببساطة آمن به وصدق حلمه ورأى ما لم يرَه الآخرون، ميا وقعت ف غرام الجاز الذي لم تتذوقه من قبل بسبب شغف سيباستيان به، وسيباستيان بدوره شجع ميا على خطوة لم تكن لتتمتع بالثقة والجرأة لتقدم عليها وهي أن تقوم بتأليف مسرحية “مونودراما”، أي من بطولة شخصية وحيدة تقوم بها ميا، أحمقان وحالمان معًا، يا للجمال!

ثم بعد ذلك يظهر كيث، من هو كيث؟ ذلك بالضبط ما سألته ميا لسيباستيان عندما التقى به، ولاحظت الضيق على وجهه، فقال لها أن كيث يريد إنشاء فرقة جاز وضمه إليها، ولكنه لا يرتاح للعمل معه، من هنا ينشأ الانطباع أن كيث هو شخص ربما يقدم موسيقى مبتذلة بشكل ما أو بآخر، وتكون الصدمة! نحضر جميعًا أول حفلة لسيباستيان في فرقة كيث للجاز ونسمع موسيقى في غاية الروعة والجمال، بل والأسوأ، نسمع كيث يخبر سيباستيان بأنه هو أيضًا يحب الجاز، ولكن كل نجوم الجاز الذين يحبهم سيباستيان صاروا نجومًا لأنهم قاموا بالتجديد، فما مشكلة التجديد؟ كلام منطقي، وفجأة تجد نفسك منحازًا إلى كيث! ما المشكلة مع الرجل إذن؟! أموال وشهرة وموسيقى رائعة وحفلات في كل مكان! تجيب ميا على هذا السؤال في جملة توجهها إلى سيباستيان: “هذا ليس حلمك”! لذلك فظهور كيث وما يمثله هي لفتة شديدة الذكاء من المخرج، وتشعل الحيرة والصراع داخل بطله، فإغراءت ترك حلمه وإلقائه في سلة المهملات عظيمة، ولا تتعارض مع مبادئه إطلاقًا، ولكن ببساطة ليس هذا ما يريده. أما الصراع مع ميا فمختلف، وهو صراع مر به كل من مارس مهنة المؤدي، أي من يقوم بـ(الأداء) أمام الجمهور، سواء كان مغنيًا أو راقصًا أو كوميديًا أو ممثلًا إلخ، وهي أن الأمر في أغلب الوقت يختلط بين ما يقدمه وبين شخصه هو نفسه، بالتالي فالنقد أو الرفض أو السخرية أو التجريح ينال من شخصه هو وثقته في نفسه بقدر ما ينال مما يقدمه، فيكونون عرضة أكبر للشك والإحباط واليأس، وهذا ما يصيب ميا قرب النهاية؛ تقرر الهروب من كل شيء وتفكر بينها وبين نفسها أنها ربما لم تُخلق لذلك، ربما ليست ممثلة جيدة بما يكفي، ومع الوقت تنسى انطباعك الأول عنها، وتبدأ أنت أيضًا في اليأس، وهذا هو المؤلم!
على الرغم من عنوان الفيلم الذي يتعلق بالأحلام، فإن الفيلم ينتهي بشكل واقعي تمامًا، يضطر الحبيبان للانفصال لأن الحياة تأخذ كلًا منهما بعيدًا عن الآخر، هناك جملة جميلة تقولها ميا في مشهد الانفصال: “هذه أول مرة آتي فيها إلى هذا المكان في النهار”، وكأنها تشير إلى انتهاء رومانسية الأحلام والاستيقاظ في عالم الواقع، وتستكمل كلامها مع سيباستيان بالتعليق على أن المكان يبدو بشعًا جدًا فعلًا، في إشارة إلى مدى قبح الواقع مقارنة بالأحلام!
الإشارة الأجمل هي في المشهد الختامي، مشهد عزف سيباستيان، الذي وجهه بشكل مباشر إلى ميا، ويشرح فيه كم أنه ما زال يتذكر، ويتمنى لو سارت الأمور بشكل أفضل، يتمنى لو قبَّلها تلك الليلة بدلًا من أن يصطدم بها، يتمنى لو حقق حلمه بجانبها، لو أنجب أطفاله منها، ولو، ولو، ولو… لكن هذه كلها أحلام وما يبقى هو الواقع! تودعه ميا بنظرة بعد أن ينتهي من عزفه، نظرة تقول له: “وأنا أيضاً”.
أتذكر الآن تعليق صديق لي على صورة في حفل الأوسكار –بعد الفضيحة إياها عندما اعتذروا عن إعطاء جائزة أفضل فيلم لـ La La Land لتذهب بدلًا من ذلك إلى Moonlight- ترى الجميع في الصورة منزعجًا، بينما يقف في خلفية الكادر ميا وسيباستيان، أو ريان وإيما كما تحب، غير مبالين على الإطلاق بل ويضحكان وكأن الأمر لا يعنيهما، فيقول صديقي: “أمر طبيعي؛ اثنان شبعوا غناءً ورقصًا، لن يعنيهما كل هذا الهراء! الحقيقة ولا أنا ولا أي من محبي الفيلم يعنينا كل هذا الهراء؛ حفر الفيلم نفسه للأبد في قلوب محبيه، بصورته وموسيقاه، بحواراته ورقصاته وغنائه، بشغف شخصياته وجمالهم وأحلامهم ويأسهم وبكائهم ونجاحهم وفرحهم، قطعة من الفن الرفيع، عن الفن وفي حب الفن والفنانين، الشغوفين المغامرين، هؤلاء الحمقى الذين يحلمون، المجانين كما للجميع يبدون.