نرجسية الاكتئاب واكتئاب النرجسية

إذا كان المرء يعتبر نفسه هدية الخالق إلى هذا العالم، فهذا شعور جيد بالنسبة له، لكنه بالتأكيد ليس كذلك لكل من هم من حوله. يعتقد كثيرون اليوم أنهم الأجدر بكل شيء، وينظرون إلى ذواتهم نظرة مبالغًا فيها، فيرون أنهم يتصفون بالعظمة، وأنهم مستحقون لأرفع درجات النجاح، ولأفضل الشركاء ولأعلى المناصب، وعندما يصطدمون بواقع الحياة تنهار هذه الذوات المتضخمة، فهل كان ذلك الشعور سياج أمان لهم يحميهم  من السقوط في براثن الاكتئاب في سنوات عمرهم اللاحقة ويحفزهم لتحقيق توقعات تفاؤلية، أم أنه نرجسية خبيثة جعلت اللباقة بل قُلْ الأدب والكياسة على رأس قائمة طويلة تنقص مجتمعاتنا الحديثة، فلم يعد للتواضع مكانًا مميزًا، بل أصبح مرادفًا لمحو الذات والخضوع والتبعية أن تسمع أو تذكر أن فلانًا جد مختلف ومميز عن غيره، وترى الجميع ينشغل بإبراز إمكاناته وجوانب قوته، ويحتاج كل واحد أن يذكر الآخرين كل يوم أنه إنسان مثلهم يستحق التقدير والمكانة الأفضل.

    كلنا نحتاج إلى أن نكون نرجسيين كي يمكننا مواجهة العالم الخارجى وتحقيق النجاح، إلا أنه ثمة خيط رفيع حيث تنتهي النرجسية السوية وتبدأ النرجسية المرضية التي تلعب دورًا غير مناسبٍ في تعامل الفرد مع مشكلات الحياة.

    وقد غدا سعي المرء اليوم إلى بلوغ الهوية بل قل بحثه عنها أكثر صعوبة من ذي قبل، فهو محتاج إلى جماعة قوية متماسكة تحيط به وتدعمه، لكن تتخبطه تيارات مختلفة، بل وجماعات جد متطرفة تفرض عليه ضغوطًا تزيد عليها مطالب أناه العليا، وتوقعات الوالدين بوجوب الاستقلالية ومواجهة الواقع والتي تكون جدية أو ضمنية غير مباشرة كونها تشبع لدى الوالدين أنفسهم حاجات نرجسية في مسار يتخفف شيئًا فشيئا من الدعم الوالدي، وهنا يواجه الفرد انجراحًا نرجسيًّا، ويخبر الضعف في مواجهة خيالات القوة أو القدرة الكلية ومشاعر استحقاقية الذات، ويعاني من عدم الانسجام بين الذات الواقعية والذات المثالية، وكل ذلك يجعله الأكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب، ورغم أن الاكتئاب ليس أكثر انتشارًا بين المراهقين مقارنةً بالراشدين، فإن الاكتئاب لدى المراهقين أكثر ارتباطًا بالاضطرابات النفسية الأخرى وسوء استخدام العقاقير وتعاطي المخدرات والانتحار.

يكره النرجسيون شكوكهم إزاء استحقاقية ذواتهم ويكرهون تعلقهم البائس بمصادر المدد النرجسي في حياتهم، وكل ذلك يكون سببًا في سلوكيات تدمير الذات التي تقودهم إلى الاكتئاب ذي الطبيعة النرجسية، وينقلبون بإرادة عاجزة إلى سلوكيات هزيمة الذات بل وتدميرها، فيقودون سياراتهم بتهور، ويسيئون استخدام الأدوية والعقاقير، وقد لا يمكنهم وضع حدًّا لاكتئابهم إلا أن يضعوا حدًّا لحياتهم، وبدلًا من تحقيق الذات المثالية تقودهم كل الضغوط والتحديات السابقة إلى تشكيل هوية متعاظمة وذات متعالية، بينما تعوزهم الذات المتزنة ومهارات التعبير عن الذات التي تساعدهم على تنظيم علاقاتهم بالآخرين والتي تضطرب على نحوٍ تشتتي.

    تختلف الأعراض الاكتئابية لدى المراهقين عنها لدى الراشدين، وهناك بعض الاختلافات أو الفروق القليلة وإن بدت متماثلة في الحالتين، تظهر الأعراض الاكتئابية لدى المراهقين على صورة غير كلاسيكية، فيكونون كسالى سريعي الشعور بالملل، منخفضي الدافعية، يتسربون من الدراسة وينخرطون مبدئيًّا في سلوكيات منحرفة، ويعانون من اضطراب وتشوش الهوية، ومن تقدير ذات هش يسهل قصمه عند أول مواجهة مع التوجيه والنقد.

    ولأننا وعلى المدى الطويل نفهم الاكتئاب باعتباره اضطرابًا كليًّا متجانسًا إلا أننا في ضوء ما سبقت الإشارة إليه لابد أن نتعرض للأساس النرجسي في الاكتئاب، وللأبعاد والمكونات النرجسية في الاكتئاب وللشعور بالخزي كونه جانبًا أساسيًّا من جوانب الحياة والاضطراب النفسي.

    إن تتبع مسارات تطور الاكتئاب مع مراعاة العوامل الذاتية والبيئية يكشف عن انتهاء جميع هذه المسارات إلى جروح نرجسية أو لنقُلْ صدمات نرجسية قوامها الانجراح النرجسي الذي تحركه مشاعر العجز والخلل وليس مشاعر الذنب، ومن هنا يمكننا القول: في الاكتئاب هناك دائمًا اضطراب في مجال النرجسية.

    نعم.. تفضي النرجسية إلى الاكتئاب حيث التوحد النرجسي مع الموضوع المفقود وما يترتب على ذلك من شعور بالخواء الداخلي الناتج عن هذا الفقد، وحيث الانكسار النرجسي وما يصاحبه من نرجسية تنطوي على تطلعات بلوغ تقدير الذات والاندماج والتوحد مع مثال الأنا، نرجسية ذات طبيعة تترجم دائمًا حاجة الفرد بل ومطالبته أن يكون دائمًا محبوبًا يحظى باحترام الذات، وهي ذات جذور قبل إنسالية تتوحد فيها الذات مع الموضوع مستهدفة السيطرة عليه كليًّا، ويظل البحث عن مثال الموضوع والحسد المتزايد إزاء الخصائص المثالية فيه يترجمان إلى شعور بالاضطهاد من خلال التوحد الإسقاطي.

    هنا تكون الوقفة، أهو اكتئاب النرجسية أم نرجسية الاكتئاب؟

    هنا تكون الوقفة لنلقي الضوء على الفرق بين مكونات النرجسية في الاكتئاب والتي ترجع إلى أو تستند إلى الشعور بالذنب، وبين الاكتئاب العميق في النرجسية الأولى (اكتئاب النرجسية) الذي تحكمه “ميكانيزمات” أولية تجعله مختلفًا -من حيث كونه اكتئابًا- عن أشكال الاكتئاب وتؤسس له بالمقام الأول مشاعر الخزي ويكون على درجة عالية من الحدة والشدة، وذلك لكي يتم التعامل معه بطريقة ملائمة وبخاصة في مرحلة المراهقة.

    بين نرجسية الاكتئاب التي يحركها الشعور بالذنب الذي يستثير بدوره ميولًا اقترابية، ويرتبط بكل ما لا يجب على الفرد فعله بينما هو قام به فعلًا، وبين اكتئاب النرجسية الذي يحركه الشعور بالخزي الذي يستثير بدوره ميولًا تجنبية، ويتعلق بكل ما يجب على الفرد فعله بينما هو لم يفعله في الأساس، يكون الدور  البيني الوسيط للشعور بالذنب والشعور بالخزي.

    إن النرجسية سوية عقلانية إيجابية ومنطلق أولي لتحقيق الذات ولكنها قد تكون مبالغة في حب الذات أو في تعذيبها فيكون الكف والإحباط، إن النرجسي يغرق في الاكتئاب عندما يشعر بنرجسيته ويرى في ذاته الكمال ولا يجد ذلك منعكِسًا في عيون الآخرين، وقبلها يصاب بالقلق  والتهديد والخوف، ويحاول فرض السيادة والاستبقاء على شعور القوة، وقد يستخدم العدوان في ذلك أو قد يكون عدوانيًّا بالفعل وهجوميًّا بل وتدميريًّا وبخاصةً عندما يظهر الانجراح النرجسي في انشغال أكبر بالذات يحركه الشعور بالذنب، وهنا يظهر نوع من الاكتئاب تمثل فيه انشغالات الفشل واختلال الشعور بالاستقلالية واستحقاقية الذات قضايا أساسية.

    فعندما يكون الشخص نرجسيًّا فإنه يريد كل شيء لكنه لا يستطيع بلوغ ذلك، وهذا الشعور بالضعف وعدم القدرة على المواجهة أو حتى التعايش يستثير أيضًا الشعور بالغضب أحيانًا والحقد أحيانًا إزاء من يملكون جميع ما لا يستطيع هو بلوغه، وما بين تجاهل أو إهمال الذات الواقعية لصالح صورة أو خيال يجب دائمًا الدفاع عنه، وبين حاجة دائمة إلى تأكيد خارجي مستمر للشعور بالاستحقاقية تولد بل تتفجر مشاعر الاكتئاب، ويزيد الأمر سوءًا أن يواجه الفرد مشكلة في مجال عمله، أو تنهار علاقة عاطفية يعتبرها مددًا نرجسيًّا لذاته.

    أما إذا كانت الانشغالات مرتبطة بمشاعر الوحدة النفسية ومشاعر الفقد والهجر، والخوف من المزيد من الفقد والهجر أو التخلي، فهذا هو الاكتئاب الاعتمادي حيث الحاجة إلى الدعم من الآخرين واستخدام “ميكانيزمات” أولية بدائية للتأكيد على هذا الدعم في تصلب وجمود، وعدم قدرة على تحمل الإحباط، وحقد تجاه الآخرين وتجاه جميع ما يملكون.

يكتئب النرجسيون لأن ما يبدونه من فظاظة وغيرة وشعور بالعظمة والتعالي يفسد عليهم علاقاتهم بالآخرين وينتهي بهم إلى حالة من الوحدة تتقطع فيها علاقاتهم، فينفض عنهم الآخرون دون الحصول على الاهتمام الذى يطلبونه دومًا، وبغير المثالية التي تجسد انشغالاتهم بالقوة غير المحدودة، والثروة والجمال والمكانة، يكتئبون لأنهم يرفضون إلا أن يكونوا تلك الصورة أو قُلْ اللوحة الفنية المكتملة، وبدلًا من التعبير عن ضعفهم ونقصهم والتصريح به، ومن ثم طلب المساعدة، فإنهم ينكفأون على ذواتهم إلى ألم وفراغ وشعور بعدم الاستحقاق، ولسان حالهم يقول: أرفض المساعدة وأتمنى الشفاء والعافية.

    هذا الفشل في بلوغ الأهداف النرجسية يترتب عليه شعور الخزي والمهانة والعار، شعور يبلغ مداه، وتختلط فيه انفعالات الحرقة واللوعة واليأس، شعور غير محتمل، مسكوت عنه، يقود “كلينيكيًّا” إلى فقدان ماء الوجه وفقدان الكرامة، والعجز والانحطاط، ويؤثر ذلك على الناحية الصحية للفرد ويتكرر الفشل في الاستجابة للعلاج النفسي، ويقود الأمر إلى عواقب وخيمة منها الالتجاء إلى العنف وارتكاب الجرائم، أو محاولة إيذاء الذات والانتحار، ويكون الغضب أشد ما يكون إزاء الذات غير المستحقة، التي تعوزها القيمة ويعوزها التقدير، ويصاحبه رغبة الفرد في الاختباء بل في الاختفاء والتلاشي، ويمكن أن يسير في مسارات بارانويدية وأعراض اضطراب في الجهاز العصبي.

إن التعامل مع الأشخاص النرجسيين يتطلب صبرًا وروحًا مرحة وتعاطفًا لأنهم أناس يشتغلون على ذواتهم من الداخل، فتراهم يلعبون دور الضحية ويستخدمون ذلك وسيلة لكسب الصراعات، وبذلك نجد أنفسنا نعامل أشخاصًا متعَبين يثيرون الشفقة من أجل استعادة الطمأنينة وتهدئة الصراع، يستنفذون جهدنا لأننا لسنا دائمًا الأفضل بما يكفى لنكون على قدم وساق مع معاييرهم المثالية وعظمتهم التي فشل كل العالم فى تقديرها.

    وبين القلق والاكتئاب، والأعراض السيكوسوماتية وأعراض الوسواس القهري، والكمالية المرضية، والجمود، والميل للتجنب، والسلبية في مواجهة التحديات الاستحقاقية، وصعوبة في الكشف عن الذات، وطلب دائم للحب والدفء والتفهم، وحرص على التسامح والتصالح والفهم، بين كل ذلك يتخبط أبناؤنا وشبابنا، ويظل كل انجاز يحققونه دائمًا ينقصه شيء، يجتهدون بل ويتفانون إلى حد تحطيم كل هدف بعد النجاح في بلوغه أحيانًا، يحاولون ضبط الواقع والسيطرة عليه، يصبحون عدوانيين، وقد يحقدون على الناجحين، ويصبحون تسلطيين محبين للقوة بل والعنف، غاضبون دائمًا رغم أنه غضب نرجس ينطوي على تعاطف مع الذات يصل إلى حد الشعور بالحزن الشديد، يحاولون الوصول إلى النضج دون اعتمادية، يقدمون على التحدى أحيانًا وأحيانًا لا يبالون، يحجمون أحيانًا عن المشاركة في أي أنشطة، وأحيانًا أخرى يحطمون كل قيد ويتخطون كل حاجز.

    هل نعرف كيف نفسر كل ذلك، هل يمكن أن يتحسن كل ذلك، هل يمكن أن يتحول الاكتئاب من اكتئاب نرجسي إلى اكتئاب تحركه إدراكات الفرد لخسارته المعنوية والمادية واضطراب علاقاته دون تركيز أولي على الذات وحزنها الشديد.

    إنها دعوة في النهاية أن نأخذ بيد أبنائنا وشركاء حياتنا بل وأنفسنا، وأن نفهم حقيقة اكتئابهم كي نفهم كيف يمكن التدخل وإنقاذ ما يمكن إنقاذه في الوقت المناسب.

المراجـــــــــــــــــــــع

منال عبد الخالق جاب الله (2005).

النرجسية وعلاقتها بالعدائية لدى عينة من طلاب الجامعة. مجلة كلية التربية جامعة الزقازيق، 51، 1-71

Anasrasopoulos,D. (2007). The Narcissism of Depression or the Depression of Narcissism and Adolescence. J. of Child Psycho- therapy, 33,3, 345-362.

Brooks, D. (2009). What happened to polite society? USA Today, sep, 8,.                                                                                        

Campell, W.K., Foster, J.D. & Brunell, A.B. (20). Running from shame or Reveling in Pride? Narcissism and the Regulation of self – Conscious Emotions? Psychological Inquiry, 15(2), 150-153.

Peter, S. (2007). Who forgives others? Themselves, and Situation? The Roles of Narcissism, guilt, self – esteem, and agreeableness. Personality & Individual Differences, 42, 2, 259-269.

Sabar, R. (2009). The Solitude and Agony of Unbearalile shame. Group Analysis, 42, 2, 143, 155.

Seah, S.L. & Ang, R.P. (2008). Differential Correlates of Reactive & Proactive Aggression in Asian Adolescents: Relations to Narcissism,Anxiety, Schizotypal Traits, and peer Relations. Aggressive Behavior, 34, 553-562.

Schmader, T. & licked, B. (2006). The Approach & Avoidance Function of Guilt and shame Emotions: Comparing Reactions to self –Caused and other – Caused Wrongdoing. Motivation & Emotion, 30.1.

Twenge, J. (2008). Today’s Youth think quite highly of themselves. USA Today, November, 19.

Vaknin,S.(2018).The Depressive Narcissist, Narcissism, Depression,and Dysphoria.Psychology Today,3/2018

Axlsalvator,M.S.(2017).Doctor and Physical Therapy.Emory University.