الأيدي الناعمة.. نساء الأنقاض | قربة

«لقد عرفت أن الحرب لن تنتهي أبدًا، طالما ظل ينزف في مكان ما جرح سببته الحرب»

الأديب الألماني هاينري شبُل. 

انهزمت ألمانيا وانتصر الحلفاء وانتحر هتلر، وأنهت الحرب العالمية الثانية فصولها الدامية، لتتحول ألمانيا العظمى إلى حطام دولة وأشلاء ضحايا يتراوح عددهم بالملايين، غير ملايين المعتقلين في صحراء روسيا، ومنازل بل مدن كاملة سويت بالأرض، وبات السواد الأعظم من الشعب يتألف من الأطفال والشيوخ والنساء.

هنا بدأت المأساة الكبرى والأكثر بشاعة في التاريخ الأوربي الحديث، حيث لم يجد الغزاة السوفييت غير نساء ألمانيا لتفريغ طاقة الغضب والانتقام فيهن، كان الجنود السوفييت يتسابقون على اغتصاب وهتك أكبر عدد من النساء كل ليلة؛ انتقامًا مما فعله الجيش النازي. تحولت الطرقات إلى أطلال وأشلاء تخضبها دموع نساء مقهورات في أزمنة رديئة.

هكذا جاء فصل الختام قبل أن يقسم الوطن الواحد، ويبدأ المصير المجهول لوطن انكسرت إرادته، وشعب بات يئن تحت وطأة كل صنوف القهر والفقر والاستبعاد. هنا ظهرت المناضلة الألمانية في الحزب الاشتراكي لويزا شرودر التي كانت تعرضت هي الأخرى للاغتصاب، وفكرت مثل ما فكر فيه الكثير من نساء ألمانيا وقتها في الانتحار، ولكن من بطن اليأس يولد الأمل، ومن قلب الظلمة ربما تظهر طاقات النور.

نادت شرودر بالعمل والبناء والتعمير، وحملت على عاتقها رفع راية الأمل في نفق مظلم لا تبدو نهايته واضحة، ومسؤولية توزيع السلاح على النساء، ليس سلاحًا ليقتلوا به، ولكن آلة لبناء بلادهم، فكانت الأسلحة عبارة عن فاس وجاروف ومقطف.

بدأت لويزا شرودر بناء حركة سميت “نساءالأنقاض” وهي ما تعرف بالألمانية بــــ “Trümmerfra” أو ما عرفت أحيانًا باسم “نساء المباني المحطمة”، بدأت الحركة في برلين، ثم انتشرت في كل أنحاء ألمانيا، ففي أقل من تسعة أشهر حولت نساء الأنقاض حطام ما يقرب من ثمانية عشر مليون من المنازل المهدمة إلى 750 ألف متر مكعب من التراب تمت جميعها على هيئة جبال وسط الشوارع ليتم نقلها بعد ذلك.

لم يكن الأمر سهلًا، فهؤلاء النساء قمن بهذا العمل وسط ظروف قاسية، فلم يكن الاغتصاب أقصى ما تعرضن له، ولكن تفشي الأمراض مثل: الكوليرا والدفتريا، ونقص كبير في السلع الغذائية الأساسية، فانتشرت السرقة من أجل شراء الطعام من السوق السوداء، وزادت معدلات الجريمة، فلم يكن يمر يوم دون وقوع الحوادث المؤسفة والمميتة، نتيجة لانفجار المقذوفات القديمة بين الأنقاض، أو انهيار الجدران والمباني، حتى الطبيعة والطقس كانا ضدهن، فكان شتاء عام 1945/1946 هو الأسوأ.

ولكن رغم تلك الظروف لم تنهزم إرادة نساء ألمانيا، بل قاومن وكافحن من أجل إعادة إعمار بلدهن، فشجعن أنفسهن والآخرين بكتابة شعارات على بقايا الجدران؛ لبَث الأمل والحث على العمل، منها: لا تنتظر حقك – افعل ما تستطيع – ازرع الأمل قبل القمح.

نساء الأنقاض بين الواقع والخيال

على الرغم من أن شوارع ألمانيا لا تخلو من تماثيل ونصب تذكارية تخليدًا لذكرى نساء الأنقاض،  وشاهدة على الدور الكبير في بناء ألمانيا، بالإضافة إلى إطلاق أسماء بعضهن على كثير من الشوارع والميادين، إلا أن هناك من يرى أن نساء الأنقاض مجرد أسطورة تم ترويجها من خلال الإعلام لجذب عدد كبير من المتطوعات، وتؤكد هذه النظرة المؤرخة الألمانية ليونيتريبر التي تؤكد أن إزالة الأنقاض بعد الحرب كانت مهمة تولتها شركات البناء، وأنهما بين عامي 1945 و1946، تم إصدار أمر يشمل جميع الإناث اللاتي تتراوح أعمارهن ما بين الخمسة عشر والخمسين من العمر، للمشاركة في إزالة الأنقاض، مقابل إعطائهن حصة أكبر من المواد الغذائية، ولجذب المزيد من المتطوعات، لعب الإعلام دوره في تصوير المرأة المشاركة بأعمال الإزالة بالمرأة المثالية صاحبة التضحيات وأعمال البطولة.

كما تؤكد أيضًا: أن دور النساء في هذه العملية كان دورًا ثانويًا، وأن عدد من شاركن بالفعل لا يمثل سوى 5% من نساء برلين آنذاك.

ولكن يمكننا القول: سواء كانت قصة نساء الأنقاض واقع أم خيال، لا يمكن أن ننكر دور المرأة الألمانية في إعادة بناء ألمانيا التي نراها الآن أين وصلت.  وكيف تحول الحطام إلى دولة من أكبر الدول الاقتصادية الكبرى والمؤثرة سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا؛ فللنساء دائمًا الدور في بناء ما هدمه الرجال، فللرجال قرار الحرب وللنساء قرار إعادة الإعمار، هن لسن بنصف المجتمع، بل هن أصل المجتمع بداية الحياة، أصل الحياة، أصل الوجود.