السرقة تصبح ثورة في La casa de papel

لا تزال القلوبُ معلقة بأحداث المسلسل الإسباني ” بيت من ورق ” أو كما ذاع صيته عربيًا ” البروفيسور” المسلسل الذي حبس أنفاس ملايين المشاهدين حول العالم، وحقَّقّ نسبة مشاهدة لا نظير لها، وأثبت أنَّ الصناعة الأوروبية للدراما تتفوق على الإنتاج الأمريكي الذي اعتدنا عليه، وربما هذا النجاح ليس مستبعدًا عن ملحمة درامية كهذه، ولو عدنا إلى عددٍ من نقاط الارتكاز التي بُني عليها  العمل نتبين أنَّ نجاحه تحصيل حاصل. 

ومن أهم عوامل نجاح العمل اعتماده على عنصر الصدمة؛ أي أنَّ المُشاهِد مهما حاول استشراف النهاية الحدثية للسرد القصصي لا يتمكن من ذلك بل إنه يُصدَم من الحبكة التي دائمًا تكون خارجة عن التوقعات والحسابات .

الصدمة دائمً تُحرك السرد بطريقة إيجابية، وتزيد من تعقيد الأحداث وتضع المُشاهد أمام مراهنة حقيقية على فشل عملية السطو، وكَأنَّك تقترب من الهاوية مع كل تنامي حدثي، وخلال لحظة واحدة تنقلبُ الأدوارُ رأسًا على عقب.. فمن ظَنَّ نفسه أحكَمَ السيطرة على الأحداث تمامًا.. مثل من يمسك بطرف الزئبق فلا يستطيع ضبط تحركاته ولا يتوقع ردات فعله .

القصة بحد ذاتها إشكالية خيالية من حيث الظاهر لكن في حقيقة الأمر هناك مقاربات واقعية تقطع الشك باليقين بأنَّ خيارات العمل مفتوحة على الواقع، وليست حبيسة الخيال الفني. 

تبدأ شرارة الأحداث في اللحظة التي يجمع فيها البروفيسورعددًا من الخارجين عن القانون والمطلوبين للعدالة لتشكيل فريق هدفه السطو على ” دار صك العملة الملكي ” في العاصمة الإسبانية ” مدريد ” طبعًا وجب التنويه بأنَّ اسم العمل كان ” المنبوذون ” أو ” المطرودون ” بدلالة على عصابة البروفيسور .

فكرة العمل تعتبر جديدة نوعًا ما، لكن ما أن تبدأ عملية السطو يراودك شعور غريب وهو الوقوف إلى جانب السارق وهذا ما تثبته النظرية  الروبن هودية؛ أي أنَّ العصابة التي نبذها المجتمع ستعود لتُدافِع عن طبقته المسحوقة، والبرهان على ذلك أنَّ العصابة لا تريد سرقة المال بل طباعة ثروتها الخاصة، وهنا وعند هذا المنعطف الدرامي نعود بذاكرتنا الجمعية إلى مبدأ ” الصعلكة ” في تاريخ الأدب العربي ونتأكد بأنَّ الفكرة معروفة، لكن ما يُميز هؤلاء السارقين هو خطة البروفيسور المحكمة، الذي يتوقع كل شاردة و واردة يمكن أن تحدث خلال عملية السطو بالأخص بأنَّ البروفيسور هو الشخصية التي لا تمتلك تاريخًا أسودًا،  بالإضافة إلى أنها الشخصية الوحيدة التي تُدير العملية من خارج أسوار ” دار صك العملة الملكي ” أي أنَّ البروفيسور هو الزعيم والعقل المُدبر الذي يُفاوِض الشرطة لإطلاق سراح الرهائن .

الشخصيات من أحد أهم عناصر البناء الدرامي، والتي لعبت دورًا مزدوجًا في القصة،  الأول : هو الطبيعي المُتعارَف عليه من خلال تشكيل الأحداث، والثاني وهو الإحالة الرمزية إلى أسماء عواصم العالم وِفقَ خطة البروفيسور التي مفادها الاستغناء عن الأسماء والألقاب الحقيقية وتعويضها بأسماء عواصم دول كبرى مثل ” طوكيو “، “برلين “، ” ريو “، ” نيروبي ” …

والفكرة هنا تَضعُك أمام مُقاربَة رمزية تحيلك إلى أنَّ هذا العالم يُمكن أن يجتمع على مصلحة مشتركة في سبيل تكوين ثروة وهذا ما أفاده عنوان ” بيت من ورق ” والورق هنا هو المال دون أدنى شك، وتمت الإشارة إلى هذه الفكرة في مواطن متعددة من السيناريو؛  ليرسمَ لك مصالح الدول العظمى على شكل مصغر وكيف يمكن للمال أن يحولك إلى مجرم محترف بكل ماتعنيه الكلمة من معنى .

السؤال:

 !كيف تحولت السرقة إلى ثورة ؟ وكيف تحول السارق إلى ثائر ؟!

بكل بساطة عندما يُمارَس عليك جميع أنواع القمع والتسلط، ينفجر الوحش بداخلك وتفقد كل مايمكن أن يكون نقطة ضعف بالنسبة لك، وتبدأ حربُك مع النظام الحاكم، النظام الذي يستبد بك ويسرق حقك ويطغى على صوتك، ويُهيمن على وجودك، وبالتالي ردة الفعل الطبيعية هي التمرد على هذا النظام، ومن هنا كان قناع ” سلفادور دالي ” هو أيقونة العصابة الذي تحول إلى رمزٍ للمقاومة، أي أنَّ الغاية التي يطمح لها البروفيسور و رفاقه ليست السرقة بشكلٍ حرفي، وإنما استعادة حقوقهم المسلوبة من قِبَل نظام الحكم ، ولأنَّ ” الغاية تبرر الوسيلة ” كما قال ” ميكافيلي “.. كان من الواجب أن يُغامر الرفاق في سبيل الوصول إلى غايتهم السامية .

يمتاز المسلسل أيضًا بطريقة عرض للأحداث وتقديم الخطة عن طريق استرجاعات داخلية وخارجية ذكية تُحيطك علمًا بأدق تفاصيل القصة، لكنَّها تحرمك من حرية التوقع، فنسبة الذكاء التي يمتلكها البروفيسور تجعلك دائمًا تشعر أن الخطة بخير والعصابة في كل خطوة تسير نحو بر الأمان . 

على مدار موسمين شعرنا بأنَّ الأحداث انتهت مع الحلقة الأخيرة من الموسم الثاني، بحيث أنَّ المسلسل استطاع أن يُغلق كُلَّ ثغور الحبكة وينفرج على نهاية مغلقة أنهت معها كُلَّ الأحداث من لحظة البداية، إلَّا أنَّ الخيال كان صادمًا في الموسم الثالث وتمَّ ربط شرارة الأحداث لبداية الموسم بسابقه، بحيث أنَّ الانقطاع لم يترك أي نقطة فصل، وكأنَّك تُتابع تتمة حقيقية للأحداث وليست عملية تمطيط بل قصة جديدة مبنية على تراكم سابق، وهذا ما جعل العقول والقلوب تنتظر بفارغ الصبر الموسم الرابع من ” بيت من ورق “.