سياسات التعليم وتخلف الذهنية

Comments 0

‎برغم انتشار التعليم في العديد من البلاد النامية، أو ما يعرف ببلاد العالم الثالث، وبين الشرائح التي وصلت إلى درجات أكاديمية متقدمة من الدراسات والبحث؛ إلا أن هناك شعورًا دائمًا بأن الخرافة والتقليد لا زالا يعيشان في أعماق نفسية الإنسان العربي، يساهمان في تشكيل وعيه، ويؤثران في ممارساته اليومية، ونظرته إلى الأمور الغيبية والمصيرية.

‎وأن الدجل لا زال خبيء في طيات جلده، وأن الجهل لا زال قابع في مكامن النفس يمارس السلطة في الخفاء، خلف ستائر التعليم.

‎وبرغم انتشار التعليم في تلك البلاد، لا زالت العفاريت تلعب بعقول شعوبها المريضة من الأميين، أو حتى الذين نالوا حظًّا من المدارس.وفي البلاد النامية، قد تجد أبناء هذه المدارس هم أنفسهم أبناء حلقات الزار وجلسات المشعوذين وقارئي الطالع والبخت والمستخبي!

‎والمشعوذ فيها قد يكون مهندسًا أو طبيبًا، وضارب الودع قد يكون معلمًا أو حتى أستاذًا في الجامعة، 

‎إن أيادي الخلل طالت ذهنية أبناء الجامعة، بقدر ما أصابت ذهنية العوام من الأميين، وأبناء ما قبل الجامعة في شتى مراحل التعليم.

‎ومن الواضح أن المشكلة تكمن في التعليم نفسه، والعديد من الدراسات السيكولوچية أوضحت مدى ارتباط سياسات التعليم بتطور الذهنية العلمية أو غير العلمية على الفرد، خاصةً في مراحل حياته الأولى، وتأثير سياسات التعليم إلى حد بعيد في تشكيل الوعي، وتكوين الشخصية، وبناء أنساق المعتقدات، وتحديد الهوية.

‎وفي المراحل الأولى، والتي تعد أخطر مراحل النمو الإنساني على الإطلاق، يتعرض الطفل لتأثير الأم الجاهلة معظم الأحيان، والتي تتسلط عليها معتقدات الخرافة نظرًا لوضعيتها المقهورة في المجتمع النامي، وموطن الخطورة هو أنها تنقل هذه الأفكار إلى وليدها، بمزجها في حواديت ما قبل النوم، أو إقحامها بوسائل العقاب والكف، فينشأ الطفل المسكين نشأةً مرضيةً خرافية، ويتعلم القلق والخوف والكبت قبل أن يتعلم منطوق الأسماء.

‎وتستمر الخرافة مع الطفل طوال مرحلة ما قبل الدراسة، وفي مرحلة ما قبل المدرسة لا يكون الطفل منتجًا بقدر ما يكون مكتسبًا، وهو لم يصل بعد إلى مراحل متقدمة من الإدراك والوعي والتفكير المجرد، فهو مجرد متلقٍ للأفكار في حدود محيطه المعاشي، ومع الوقت يبدأ الطفل في السؤال، وتحمل أسئلته الطابع الفطري الساذج، ومن النادر أن يجيب هذا المحيط عن أي تساؤلات للطفل.

‎والموضوع أشبه بمؤامرة كبيرة على هذا الطفل المسكين، مؤامرة تتجسد في ممارسات الكذب والتخويف والتهديد والتضليل والوعيد والقهر والشلل الذهني، وهي محاولة لعدم تكلف عناء الشرح، وضيق الإجابة، أو هي محاولة لتغطية جهل الآباء خلف ستائر الأشباح والغول والجحيم.

‎ثم يحمل الطفل هذا المعاش الخرافي والأفكار البائدة معه إلى المدرسة، والمدرسة حلقة أصيلة من حلقات القهر الذي يمارس على مختلف المستويات التربوية، وعلى صعيد المستويات الرتبية في حياة الإنسان المتخلف، وتتفاقم المشكلة أكثر، لأن المدرسة بمناهجها وبرامجها لا تقوى على اقتلاع هذه الأفكار أو تصحيح هذه الممارسات، هذا إذا لم يقع الطفل على معلم يكون مؤمنًا بما يؤمن به الآباء أنفسهم.

‎وفي أحسن الأحوال، تمتزج المعلومات التي تلقنها بالخرافات التي تلقاها، ويذوب ما تعلمه في قوالب ما نشأ عليه، فتكون الخرافة مجرد قشرة هزيلة تسقط أمام التجارب الحياتية القاسية.

‎وما أكثرها التجارب القاسية في المجتمعات النامية، وفي كل الأحوال تظل التجربة الخرافية متأصلة في الأعماق، وكامنة بين خبيئات النفس اللاواعية.

‎والخرافة ستستمر ما استمرت سياسات التعليم في البلاد النامية سطحية في المناهج والطرق والأسلوب والمحتوى، وستظل تستمسك بعقول شعوبها طالما استمسكوا هم بأساليب التلقين والتحفيظ التسلطية التي لا تقبل النقاش ولا تستدعي التفكير ولا تستحث على الإنتاج.

‎وعلى المستوى النظري فإن أولى خطوات تفكيك الخرافة من جذورها هي تحديث نظم التربية بما يتناسب مع متطلبات العصر، وما يتوافق مع قواعد العلم الصحيح، وتفعيل مناهج وطرق البحث العلمي على كافة المراحل التعليمية، بما يتلائم مع واقع الطالب المعيشي، لتقليل حالات الاغتراب النفسي، والازدواجية الفكرية، والانفصام بين ما يتعلمه وما يتربى عليه وما يعيشه وما يؤمن به.

‎ولكن المشكلة الأساسية ليست في سياسات التعليم، فالتعليم وسيلة، وبقدر خطورتها فهي تبقى مجرد وسيلة، وإنما المشكلة الأساسية التي قد لا يجد إليها الحل سبيلًا، تكمن في سياسات تلك الدول نحو شعوبها، من أساليب القمع والقهر والاستغلال على الأميين وأصحاب الشهادات الذين قتلتهم الخرافات، ووسائل الضغط والتسلط والإرهاب المعيشي على المتعلمين الذين يحلمون بالتغيير.

‎والاستمرار في ردع كل محاولة للتغيير والتجديد والتنوير، تحت مسميات الكفر والإلحاد والزندقة.