من وحي يوسف وأخيه

إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون”، سمعت تلك الآية مرارًا قبل أن أعلم أن لها أصل من الذكر الحكيم، كان صديقي يرددها دائمًا في كل موضع وأمر سألته عنها سلفًا، فأخبرني أنها قول يوسف يوم أوتي مجامع القوة والسلطان. قالها لأخيه الصغير الذي بصر الدنيا على فاجعة مكر إخوته لأخيه الذي لم يطل عهده معه؛ قالها حتى لا يحزن لمكر إخوته ولا يجزع لحزن أبيه.

أخبرني أننا نسير على نفس السنة فنرددها لأخلائنا، لا نملك سلطان يوسف لبث القوة فيها، ولكن حسبنا قوة الصدق من قلوبنا عندما نرددها، فنرى كأن قلبنا أصبح فضاءً واسعًا أوى إليه كل مُنهكي الأرواح. لا نملك لبعضنا شيئًا سوى أن نكون مطيِّبين لكَلْم قلوب بعضنا البعض لو ارتضينا ذلك… وإن كان ظني أن يوسف لم يقولها إلا بيقين أيّدَه سلطانه عليه أنه قادرٌ على إصلاح كل ما أهَمّ أخاه؛ ولكن الأمر عندنا يأتي بجنب آخر: جنب التجرد في حضرة الإخلاء من كل شيء إلا من أخيك واجتماع قلبك وقلبها وفقط، فلا يضيء سراج الأرواح غير قوة المحبة، ويكأن “إني أنا أخوك” هي كلمات مُشغلة أضاءت مصابيح القلوب فأنارت واستنارت بهدي الأخلاء وصحبتهم.

وفضاء الأخلاء فسيح يتسع ليأوي بعضهم إلى بعض يسع ولا يضيق أبدًا، وإن ضاق أحدهم لاتساع قلبك فلا بأس عليه وعلينا… أولم يقل يوسف قوله لأخيه لبقية إخوانه -وإن اختلفت الصياغة- بكل سماحة؟ ألم يقبلهم رغم كل شيء ولم يُعقب حينها؟ حسبنا ألا تضيق عليهم وعلينا قلوبنا ويتغمدها الكريم بحفظه؛ فيظل الخليل خليلًا وإن ضاقت عليه الدنيا أو نأى هو بنفسه عنا.

لا يضر متى اجتمعت القلوب ومتى ألفت وتآلفت الأرواح.. اعتادهم القلب وسُقي محبتهم تكرارًا، أم كان حديث العهد بطرق أبوابه؛ إن كان الصدق حاضرًا وملازمًا فلا يضير من سبق بمن لحق، حتى إنه ليقطع حديث العهد معك ١٠٠ عام في قلبك ولا تدرك كم لبثت معه تمامًا كالعزيز، تقطعون شوطًا عظيمًا في أعمار القلوب والأرواح ولكن عند السؤال يكون ” يومًا أو بعض يوم”.

وسماع “إني أنا أخوك”  قولٌ مطمئنٌ في كل حين، حتى لأحسب أن أخا يوسف لسكن قلبه عند سماعها، ولنسي بأسه وإن لم يرَ لها مردودًا بعد. وبها أثرٌ للطيبين يدلنا عليهم.. حتى وإن لم تصل إلى آذاننا، فهي تعلم طريقها للقلوب حتى لترى أن كل ما هو من طيف الخليل طيب مُطيب، وبها قوة تعين المرء على الدنيا ومكابدها في غياب أخيه… وإن زال مأواه عنه فلا يزال الدفء يكنف الروح، فتسكن بذكره وتأنس بكل طيف له، ولها شذا يُنثر في الأحرف والأقلام فيبعث منه أطيافًا للأحياء وإن غابوا.

حتى ذكرياتنا البعيدة التي نحسب كأنها تتدفق لأذهاننا من مكان سحيق فقط لنأنس بها، وبقولها نرجو الشفاعة يوم الخوف، وبها وصدق تردديها نلتمس موضعًا تحت ظل العرش أكثر أمنًا للخائفين، يومئذ نطلبه بها حتى لترى أنها أدت ما عليها لقلوبنا في الدارين حيث أهدتها خير ما طلبت -الطمأنينة-، وبها نستحضر صورة تجمع كل خليل بخليله فنرى منها طلحة وكعب، يذكرن سحر ذاك القول يوم ضاقت الدنيا على طلحة، ولم يسعه غير قلب كعب أو أبو بكر وهو يروي كيف كانت مُهونة الخوف في الغار ومعاذ وهو يقص كيف قضى ليلته يوم أفضى إليه الفاروق بمحبته له، وفي ذكر الغايات المحمودة كانت من خير الرفقة أيضًا.

ورفاق دروب الحياة نستعين بها عوضًا عن كل زاد نقص أو طريق ضُل، فإما تهديك الحياة صحبة أخ صادقٍ تسيران متلازمَين، فلا يتقدم أحدكما على الآخر ولا يتأخر عنه، فتدركان الفرح والترح معًا، أو يتفاوت بكم الموضع من القافلة وتتصل الغايات والقلوب حتى إذا ما سبق أحدهم الآخر أعانه عليه ومهد له ما استطاع إليه سبيلًا، حتى إذا ما وصل الجميع كان مشهد النهاية بربتة الكتف، وظل العرش من أعلى ورب العزة يشهد الكون أن هذين اجتمعا علي وتفرقا علي.

أخبرني صديقي أن لا شيء أطيب على النفس من ذكر الخل لخليله حتى لتشعر أن إحصاء أخلائك يبعث فيك طيف أمان يعينك على روع الدنيا، وحسبنا في لحظات الألم أطياف الأحبة تسحبنا إلى روضة ذات قرار ومعين فلا نَصَب ولا ألم هناك معهم.

فإنا لا زاد لنا في تلك الدار دونهم ونحن بخير ما دمنا نتلمس آثار الإخوة ونجمع لها الأقوال والأشعار، فلا ننسى قدر ما أُنعم علينا، وكان حقًّا علينا أن نستمسك بالود إذا ما رأيناه في عين أحدهم فلا بؤس ولا ضلال في حضرة الأخلاء سواء كنا هنا أو في ساعة العرض، فيُكتب لقول يوسف لأخيه الخلود في قلوب المتحابين في جلال الله، فلا يفنى ولا يبطل.