أهرب من مصر أروح على فين؟

Comments 0

ابنة من أبناء الطبقة المتوسطة، كبرت في بيت متيسر الحال، نأخذ التموين الذي توفره لنا الدولة، نشتري خبزًا مدعمًا من الفرن، ونركب الميكروباص والمشروع بدلًا من التاكسي طالما يسمح الوقت بذلك. لكن في الوقت ذاته يمكننا تغطية تكاليف هاتف باهظ الثمن، والذهاب إلى المطاعم والمقاهي مع الأصدقاء، وقضاء فترة قصيرة من الإجازة الصيفية على الساحل. 

لم تتسن لي الفرصة للخروج من مصر، لكن طبيعة عمل والدي كانت تسمح بأن يكون من هؤلاء متعددي السفر. منذ أن كنت صغيرة أرى والدي يذهب أسبوع أو أسبوعين إلى دولة أجنبية ما، فيعود محملًا بالحكايات عن مدى تحضر شعبها وكرمه، عن البنايات التي لن أستطيع الانتهاء من عدّ أدوارها، عن القطارات التي تشبه ما أراها في أفلام الخيال العلمي، وعن كل هذا الجمال الذي يفوتني، والذي سأصل إليه فقط بعبور حدود مصر إلى أي مكان خارجها. مع كل حكاية يرويها لي أبي تلمع عيناي، وينفتح فمي من مدى سحر ما يحكيه. كنت أتمنى لو أصير أصغر حجمًا حتى يتسنى لي الدخول في حقيبة السفر في رحلته القادمة والذهاب معه إلى “عالم الأحلام” أو كما وصفه لي.

كبقية جيلي الذي وُلد في أواخر التسعينات، أول إدراك لنا لمعنى حقيقي لكلمة “وطن” بعيدًا عن الشعارات التي كنا نحفظها بالمدرسة، ومعرفة كم تكلفنا تلك الكلمة، كان مع ثورة الخامس والعشرين من يناير. كنّا صغارًا، أكبرنا لم يتجاوز الخامسة عشر من العمر. كان المشهد دراميًا في الحقيقة، ومع أول هتاف “عيش، حرية، عدالة اجتماعية” بدأ الأمل يتسلل إلينا من جديد، حلمنا بغدٍ أفضل، ووطن لا يلفظ أبناءه، حلمنا بوطن أقل قسوة، وكنا على استعداد لتقديم الكثير من التضحيات حينها، والتي كان أولها التخلي عن عالم الأحلام الذي ينتظرنا في الخارج والبقاء في مصر.

لم يدم ذلك الحلم الوردي مع الأسف؛ قاتلنا طويلًا من أجل الثورة حتى قاتلتنا هي بعدها بكل قوتها وسلبت منا آخر أمل لنا للبقاء وقررنا جميعًا الهرب.

تحولت جلساتي مع الأصدقاء إلى محاولات لوضع خطة “للخلعان” من هذا السجن الذي أحاطونا به. كل ضربة اقتصادية تضربنا شاركت في اهتزاز الاستقرار المادي للأغلبية، ومع تعويم الجنيه المصري الذي أفقدنا جميع مدخراتنا، ومع كل مصيبة تنزل علينا ما بين خبر اعتقال أحدهم أو استشهاد الآخر تحولت لغتنا تجاه الدولة وكل ما يخصها إلى لغة كراهية، نمشي لنسب هذا ونلعن ذاك، حتى معظم المجتمع المصري نفسه كان يشارك في فقدان ما تبقى لنا من عقل، فأصبح المكوث هنا إما إقامة مؤقتة -لكنها ليست بخدمات فندقية للأسف- أو إقامة جبرية لعدم استطاعة السفر.

ما زلت أذكر تلك الرجفة التي اعتلت جسدي عندما أخبرني صديق لي بأنه على وشك إنهاء إجراءات الهجرة إلى ألمانيا ويفصله عنها بضع خطوات، بكيت ولم أفهم لمٙ؟ لطالما خططنا لذلك! ثم جاءني بعدها مباشرة خبر قبولي في منحة لإكمال دراستي خارج مصر، انهرت حينها. كنت أتمنى لو رفضوني هم، لم أرد أن يتم وضعي أمام حقيقتي التي لم أرد الاعتراف بها أمام نفسي أبدًا وطالما أنكرتها وهي وللأسف أنني “أريد البقاء في مصر”.  

سخرتُ مني ومن ردة فعلي حينها كما كنت أسخر من كل تلك الشعارات التي كان يرددها أولائك الذين قرروا البقاء، تلك الشعارات التي كانت تُهدم أمامي بمحاولة بسيطة لختم ورقة ما من مصلحة حكومية أو التمشية وحدي في الشارع على قدماي.

 شعرت بأنني أخون معتقداتي التي طالما آمنت بها وأنه يتوجب علي الآن أن أبدأ من جديد. في الواقع قد يبدو الأمر ساذجًا، لم قد يود إنسان، وبكامل إرادته، اختيار البقاء في مكان يشبه فيلمًا وثائقيًا على “ناشونال جيوغرافيك” ليصحوا كل يوم ليخوض “صراع بقاء في حياة برية” إلى أن ينام؟ لكن للأسف اكتشفت أن هناك ما يستحق، أو على الأقل بالنسبة لي.

تقول لوسيت لنيادو الكاتبة والصحفية في جريدة وول ستريت، وهي مصرية يهودية هاجرت من مصر منذ أن كانت في السادسة من العمر في فترة الستينيات إلى الولايات المتحدة الأمريكية ثم إلى فرنسا: «الشيء الغريب بالنسبة لمعظم الناس وبالنسبة لي أيضًا هو مقدار ما أتذكره، وكأنها أهم فترة في حياتي. مهما بقيت في أمريكا، ومهما بلغ مقدار النجاح الذي وصلت إليه هنا، لدي شعور دائم بالخسارة، وبأن هناك عودة».

أتحدث من موضع الرفاهية أعلم ولكن كيف توضع حياة كاملة وتراث وماضٍ عشناه هنا طويلًا بكل ما يحمله في كفة والغربة في كفة أخرى؟ كيف نترك كل تلك الذكريات والحكاوي التي تسكن الشوارع والناس، أشعر بالتوتر عند الذهاب إلى مكان جديد لا أحفظ حواريه، فكيف أذهب إلى بلد لا تعرفني أو حتى تشبهني؟ فكرة ألا أتحدث بلغتي العربية لسنين مثلًا أو ينعقد لساني عند محاولة التحدث بها وحدي في الغرفة في محاولة تقييم مدى تغير لهجتي العربية، أو أنني لن أستطيع رمي “الإفيهات” ونكاتي السخيفة التي لا يضحك عليها سواي تؤرقني.

أعتقد أنني لم أرد “عالم الأحلام” الذي أخبرني عنه أبي، أردت أن يرق هذا الوطن لنا ولو قليلًا فقط، قليلًا للدرجة التي تسمح لي بالبقاء فيه.

أسير في تفاصيل شوارعها التي تأسرني دائمًا، فأرى “الست” تغني مقطع من أغنية من ألحان البديع محمد عبد الوهاب في كشك قديم فتقول «أهرب من قلبي أروح على فين، ليالينا الحلوة في كل مكان» فيرق قلبي وأشعر أن ذلك المقطع بالذات يشبهني ويشبهها.